الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

حين يسكت الضمير، ويتكلم السلاح، لا تُكتب الفواتير بالحبر، بل بالدم، وفي عالمٍ تتشابك فيه مصالح القوة مع رغبة البقاء، لم تعد الحروب حدثًا استثنائيًا، بل صارت نظامًا اقتصاديًا عالميًا متجذرًا، تُسفك فيه الأرواح، وتُهدر فيه الثروات، تحت لافتات براقة من الأمن والسيادة والردع.

لم تعد ساحات المعارك وحدها هي الخاسر، بل امتد لهيب الصراع ليحرق ميزانيات الدول، ويُربك أسواق الغذاء، ويهدم ما بنته التنمية لعقود.

في زمنٍ تصعد فيه أصوات الانفجار فوق صوت الإنسان، تُدوَّن فواتير الحرب نحو 17.5 تريليون دولار سنويًا، وهي الكلفة التي تدفعها البشرية، ليس فقط ثمنًا للذخائر والدبابات، بل للدمار، والجوع، والتشريد، والأوجاع التي لا تندمل في ذاكرة الشعوب.

فمن أوكرانيا إلى سوريا، ومن العراق إلى مناطق التوتر في إفريقيا وآسيا، يمتد النزيف الصامت بلا توقف، ومع كل طلقة تُطلق، هناك مدرسة تُغلق، ومع كل غارة تُنفذ، هناك مشفى يتداعى، ومع كل صفقة سلاح، هناك وطن ينهار بصمت.

مستقبل غزة بعد الحرب.. واشنطن تدرس تشكيل هيئة أمريكية لإدارة القطاع |  القاهرة الاخبارية

في تقرير آخر أصدره معهد الاقتصاد والسلام لعام 2024، تظهر الحقيقة الصادمة: أكثر من 17.5 تريليون دولار أُهدرت في عام واحد فقط بسبب العنف، وهو ما يعادل 13% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

هذه الكلفة تشمل كل ما يرتبط بالحرب من نفقات، سواء بشكل مباشر من خلال شراء السلاح وتجهيز الجيوش، أو بشكل غير مباشر عبر خسائر الإنتاج، والإنفاق على الأمن، والرعاية الصحية لضحايا العنف، وتكاليف اللجوء والنزوح، وصولًا إلى الآثار النفسية والإنسانية التي يصعب قياسها بالمال.

وفي المقابل، لا تُخفي شركات السلاح ابتساماتها، فكل حرب تُشعل سباقًا نحو التسليح، وكل صراع يعيد تشكيل السوق.

شركات عملاقة مثل لوكهيد مارتن ورايثيون وBAE Systems حققت نموًا هائلًا في مبيعاتها بين عامي 2022 و2023، مدفوعة بطلبات الشراء المتزايدة من دول ترى في السلاح ضمانة لبقائها، أو ورقة ضغط في حسابات السياسة الدولية. 

في هذا المشهد، تتحوّل الحروب إلى صفقة، والدم إلى سلعة، وتُنسى الضحايا في ضجيج الأرقام، لكن الوجه الأشد قسوة لهذا الواقع لا يظهر في الموازنات، بل في وجوه النازحين. 

حتى منتصف 2024، تجاوز عدد اللاجئين والمشردين حول العالم 117 مليون إنسان، معظمهم دُفعوا خارج أوطانهم بسبب حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. 

هؤلاء لا يحملون إلا ذكريات منازلهم، وبعض الملابس، وأملًا هشًا في مستقبل أكثر رحمة، بينما تتحمل الدول المضيفة عبئًا اقتصاديًا وإنسانيًا متزايدًا، وتتآكل مواردها أمام احتياجات اللاجئين اليومية من مأوى وغذاء وتعليم وعلاج.

وما إن تنتهي الحرب، حتى تبدأ معركة أخرى وهي معركة الإعمار وقد تكون الكلفة هنا أكبر من كلفة القتال ذاته في أوكرانيا، قُدّرت فاتورة إعادة الإعمار حتى منتصف 2024 بأكثر من 486 مليار دولار، بينما تجاوزت كلفة دمار سوريا 400 مليار دولار، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، أما العراق، فاحتاج إلى نحو 88 مليار دولار لإعادة ترميم ما حطمته الحرب على تنظيم داعش. 

هذه الدول وغيرها، بعد أن أنهكها القتال، تُجبر على الدخول في دوامات الديون، أو الاعتماد على المساعدات المشروطة، لتنهض من جديد على أكتاف شعوب مُرهَقة ومنهَكة.

كل هذا يحدث بينما تشير الدراسات إلى حقيقة لافتة ومؤلمة في آنٍ معًا، كل دولار يُستثمر في تعزيز السلام والوقاية من النزاعات يمكنه أن يُجنّب العالم خسارة 16 دولارًا كانت ستُنفق على الحرب.

تلك المعادلة البسيطة والمذهلة في آنٍ واحد، تفتح الباب لسؤال مشروع: لماذا لا نستثمر في السلم كما نستثمر في السلاح؟ ولماذا لا نؤسس اقتصادات تُبنى على الحياة، لا على الموت؟

إن الحرب تُصيب الجميع، حتى أولئك الذين يظنون أنفسهم في منأى عنها. وقد بات واضحًا أن العالم لا يعاني من نقص في الموارد، بل من نقص في الحكمة. 

في كل رصاصة تُطلق، هناك فصل دراسي يُغلق، وفي كل دبابة تُشتَرى، هناك مستشفى تمحى من على وجه الأرض، وكلما زادت فاتورة الحروب، ضاعت فرص السلام، وتراكمت ديون الأجيال القادمة.

في هذا العالم الذي تحكمه الأرقام، ربما آن الأوان أن نُعيد تعريف الأولويات، وأن نحاسب من يربح من الدمار، ونمنح الحياة ميزانية تستحقها، ففواتير الحرب لا تُسدَّد فقط بالمال، بل تُسدَّد من عمر الإنسان، ومن حقه في الأمان، ومن أحلام لم تولد بعد.

د. حماد الرمحي 

تم نسخ الرابط