
لم تكن حربَ الاثني عشر يومًا، مجرد مواجهة عسكرية عابرة بين إسرائيل وإيران، بل كانت زلزالًا استراتيجيًا هز أركان الكيان الإسرائيلي، وعرّى نقاط ضعفه العسكرية، في واحدة من أقصر الحروب وأكثرها تكلفة في تاريخ تل أبيب الحديث.
حرب الـ«12 يوماً» التي شنها جيش الاحتلال الصهيوني كشفت عورة إسرائيل، وفضحت أكذوبة «الجيش الذي لا يُقهر» وأسقطت نظرية «الردع الإسرائيلي» وأظهرت ضعف وفشل منظومة القبة الحديدية التي تحولت إلى قبة «بلاستيكية» أمام صواريخ إيران البالستية.
وطبقاً لتقارير صادرة عن مؤسسات بحثية واستراتيجية دولية، فقد تكبدت إسرائيل خسائر فادحة نتيجة الحرب على إيران، قُدّرت بنحو 100 مليار شيكل، أي ما يعادل قرابة 28 مليار دولار خلال 12 يومًا فقط، فيما رفعت بعض التقديرات هذا الرقم إلى نحو 32 مليار دولار، ما يعكس حجم النزيف الاقتصادي المتسارع.

لم تقتصر هذه الأرقام على التقديرات الخارجية، بل جاءت مدعومة باعتراف رسمي من وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي أعلن أن التكلفة المباشرة للحرب بلغت نحو 12 مليار دولار، منها 6.5 مليار دولار خصصت لشراء المعدات العسكرية، بينما بلغت الخسائر غير المباشرة وحدها نحو 20 مليار دولار، وهو ما يُعد مؤشراً صارخاً على الانهيار الاقتصادي المتداخل بين الجبهتين العسكرية والمدنية.
وفي مشهد يعكس شدة الصدمة العسكرية، طالب وزير الدفاع الإسرائيلي الحكومة بدعم إضافي للجيش بقيمة 11.7 مليار دولار، لتعويض خسائره الميدانية واللوجستية، في وقت وصلت فيه الخسائر اليومية للعمليات العسكرية إلى نحو 725 مليون دولار، توزعت بين الهجمات المباشرة (593 مليون دولار)، والإجراءات الدفاعية والتعبئة (132 مليون دولار)، فضلاً عن خسائر لوجستية يومية قُدّرت بنحو 294 مليون دولار.
أما على مستوى البنية التحتية والقطاع الجوي، فقد سجلت شركة الطيران الإسرائيلية "العال" خسائر تُقدّر بنحو 6 ملايين دولار يوميًا، بينما تكبدت مصفاة "بازان" للطاقة نحو 3 ملايين دولار يوميًا، ما يعكس تأثير الحرب المباشر على شرايين الاقتصاد الإسرائيلي الحيوية.
ولعلّ ما جرى في معهد وايزمان للعلوم والأبحاث العسكرية، ومصفاة حيفا لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا السياق، فالهجوم عليهما لم يكن مجرد استهداف لمنشآت بنيوية، بل شكّل ضربة رمزية ووجودية موجهة إلى قلب الدولة العبرية؛ حيث يتجلى عقلها العلمي وعصبها الصناعي.
لقد تجاوزت الحرب مفاهيم الاستنزاف العسكري لتصل إلى البُنى المعرفية ومراكز الابتكار، مُعلنة أن العمق الإسرائيلي لم يعد محصّناً، وأن المعركة باتت تتسلل إلى هوية الدولة ومرتكزاتها المركزية.
بهذا المشهد، لم تعد الحرب مجرد صراع عسكري تقليدي، بل تحوّلت إلى اختبار شامل لكيان الدولة، حيث تُقاس الخسائر لا بعدد الصواريخ، بل بحجم التآكل في منظومة الردع، وانكشاف هشاشة المنظومة الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية على حد سواء.

الخسائر غير المباشرة للحرب الإسرائيلية على إيران
الخسائر غير المباشرة للحرب الإسرائيلية على إيران لم تكن مجرّد كُلفة جانبية، بل كانت ارتدادًا مدويًا لزلزال استراتيجي أصاب البنية العميقة للاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي، وفاق في آثاره كل التصورات العسكرية التقليدية.
فالحرب التي خاضتها إسرائيل ضد إيران، لم تتوقف عند حدود المدافع والصواريخ، بل امتدّ تأثيرها إلى شلّ المفاصل الحيوية للدولة، لتتكشّف بعدها فصول كارثة اقتصادية صامتة، بلغت خسائرها غير المباشرة ما يزيد عن 20 مليار دولار، بحسب التقديرات الأولية.
مطار بن غوريون، الشريان الجوي لإسرائيل، أصيب بالشلل التام، وتحول إلى مدرج خاوٍ تنتظر فيه الطائرات بلا ركاب ولا وجهة، والقطاع السياحي دخل في غيبوبة اقتصادية، بعد أن فرّت الوفود السياحية وهجرت الفنادق، فيما أُغلقت المتاجر وتعطّلت سلاسل الإمداد، وتوقفت عجلة المصانع عن الدوران، ليعمّ الصمت في مدن كانت لا تعرف السكون.
إن الخسائر لم تكن مادية فقط، بل امتدت لتطال النسيج الإنساني والاجتماعي؛ إذ تم إجلاء وتشريد ما يقرب من 150 ألف مستوطن إسرائيلي من مساكنهم الواقعة في مناطق التماس، فيما تقدّم أكثر من 40 ألف مواطن بطلبات تعويض، تُقدّر قيمتها بنحو 10 مليارات شيكل، مما يشير إلى أزمة مدنية داخلية غير مسبوقة، يُحتمل أن تترك تداعيات طويلة الأمد على المجتمع الإسرائيلي.
وبدا المشهد وكأن الحياة قد نُزِعَت فجأة من الجسد الإسرائيلي، وكأن المدن تنتظر رصاصة رحمة تُنهي انتظارها الموجع، إنها ليست مجرد خسائر اقتصادية، بل انهيار لثقة الداخل، وتعرية لوهم الأمن، وكشف لحقيقة أن الحروب الكبرى لم تعد تُقاس بعدد القتلى، بل بحجم الشلل الذي تُحدثه في عمق الدول.

أما المدن الإسرائيلية المحتلة، فقد تلاشت منها ملامح الطمأنينة، وتحوّلت وجوه سكانها إلى ملامح مذهولة، شاحبة، تتخبّط في الركام وتجرّ خلفها حقائب النجاة، بعدما غادرت منازل لم تعد تصلح للسكن، ولا حتى للحنين، منازل انهارت لتصبح أطلالًا متناثرة فوق ذاكرة خائفة، وشوارع ضاقت حتى غدت ممرات للفرار لا للعبور، وكأن المدينة بأكملها اختزلت في لحظة هروب جماعي من موتٍ يتربّص في كل زاوية.
وفي مشهد يكاد يكون أقرب إلى لقطات نكبة مدنية شاملة، اصطفّت آلاف العائلات أمام مكاتب التعويضات في طوابير طويلة، يحملون أوراقًا رسمية لا تساوي شيئًا أمام حجم الفقد، أوراق تطالب بتعويض عن منازل محروقة، وسيارات مسحوقة، وأحياء سكنية انهارت فوق رؤوس ساكنيها، في لحظة عجزت فيها مؤسسات الدولة عن الترميم النفسي قبل المادي، وظهر المشهد أشبه بنزوح داخلي واسع لم تعرفه إسرائيل منذ عقود، وكأنه إعادة إنتاج لنسخة مقلوبة من مآسي المنطقة، لكن على الأرض الإسرائيلية هذه المرة.
إنها لحظة فارقة في الوعي الإسرائيلي، لم تصنعها الصواريخ فقط، بل صنعها الإدراك الجديد بأن الحرب القادمة لا تستهدف الجنود فحسب، بل تحاصر المواطن في بيته، والباحث في معمله، والعامل في مصنعه، لتُعلن أن زمن الحروب المحصورة في الجبهات قد انتهى، وأن الداخل لم يعد آمنًا كما كان يُروّج.
الصورة التي التقطها العالم كانت صادمة: "الجيش الذي لا يُهزم" بدا عاجزًا، والكيان الذي روج لذاته كقلعة منيعة ظهرت شروخه للعيان، في حرب لم تتجاوز إثنى عشر يوماً!!