في ليل غزة الطويل، تتكاثف الغارات كأنها سُحب سوداء تنذر بالمزيد، لا تمطر ماءً، بل نيرانًا وحممًا ودخانًا.
وليس وحده الطيران مَن يحلّق فوق المدينة المحاصرة، بل تحلّق أيضًا خرائط سرية، ونماذج اقتصادية، وجداول تهجير، ترسمها عقول باردة في مكاتب أنيقة على الجانب الآخر من المحيط.
هناك، في قلب الولايات المتحدة، جلست مجموعة من المستشارين الماليين في شركة "بوسطن الاستشارية العالمية" (BCG)، تتأمل الخراب من بعيد، لا لتبكي الضحايا، بل لتضع ميزانية لتهجيرهم، رقم لكل فلسطيني، تكلفة لكل وجع، حزمة تعويض لكل وداع قسري.

النكبة تتكرر.. ولكن بلغة الاقتصاد
لم يعد التهجير يُنفّذ بالدبابة وحدها، بل أصبح يُدار بالمشاريع الناعمة والتمويل المريب، فالنكبة التي هجّرت 750 ألف فلسطيني في 1948، والنكسة التي زادت الطين بلة في 1967، لم تكن سوى مقدمات لمخططات أكثر دقة، تتخفى خلف عناوين كاذبة مثل "إعادة الإعمار" و"الفرص الإنسانية".
بين أكتوبر 2023 ومايو 2024، أنجز فريق من خبراء شركة BCG نموذجًا ماليًا محكمًا يقيّم جدوى تهجير نصف مليون فلسطيني من غزة. كم يكلف كل منهم؟ تسعة آلاف دولار فقط. وما تكلفة التهجير الكلي؟ خمسة مليارات. وما العائد؟ أرض فارغة، جاهزة للاستثمار، بلا مقاومة، بلا صوت.
وحين انكشفت الفضيحة، حاولت الشركة التنصل، تمامًا كما ينكر القاتل الدم على يديه، لكن تسعة شهود من الداخل أكدوا لـ"فاينانشيال تايمز" أن المخطط كان جادًا، مدعومًا من البيت الأبيض، ومدفوعًا بالأمل في استثمار الدمار.
غزة ليست فقط رمادًا.. بل كنوز مدفونة
حين تنظر الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل إلى غزة، لا ترى فقط شعبًا محاصرًا، بل ترى ما تحت البحر وما في باطن الأرض. هناك، ترقد ثروة هائلة: 1.4 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، 1.5 مليار برميل من النفط، 5000 طن من الثروة السمكية سنويًا، ومزارع وحقول، وواجهة بحرية تمتد لأكثر من 41 كيلومترًا على المتوسط.
في عرض البحر، ينتظر حقل "غزة مارين" منذ عقدين أن يُستخرج، لكنه ظل معلقًا بين طموحات الفلسطينيين وقيود الاحتلال، بين عقود "بريتيش غاز" ومعاول التخريب الإسرائيلي حوله. تنتج إسرائيل الغاز من حقل "لوثيان" وتصدره إلى أوروبا، بينما تُجبر غزة على العتمة.
تحت ركام غزة، لا يوجد فقط حطام بيوت، بل اقتصاد مدفون، وسيناريوهات صامتة لنهضة مغدورة. الركام الذي قُدّر بـ42 مليون طن – أي 11 ضعف حجم هرم خوفو – هو شاهد على عدوان استهدف ليس فقط البشر، بل المستقبل كله.

لماذا التهجير؟ ولماذا الآن؟
الاحتلال الإسرائيلي، ومن خلفه الولايات المتحدة، يدرك أن الأرض أثمن من أهلها إذا ما تُركت للفلسطينيين. فالموقع الجغرافي لغزة لا يقدّر بثمن، ومن يتحكم بمياهها وحدودها، يتحكم ببوابة الشرق نحو المتوسط. في زمن تتصارع فيه الأمم على الغاز والنفط، تصبح غزة منجمًا استراتيجيًا لا يُترك دون وصاية.
لكن هذا الطمع يُغلف بخطاب إنساني مزيّف: "إعادة إعمار"، "مساعدات دولية"، "حزم إعادة توطين". أما الواقع، فكما كشفه تقرير الأمم المتحدة، فهو مصادرة الثروات، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الاقتصادية، وفرض تكاليف احتلال تجاوزت عشرات، بل مئات المليارات من الدولارات.
أما وعود إعادة الإعمار، فكلها وعود كاذبة. ففي عام 2014، وعد العالم بإعادة إعمار غزة بمبلغ 5.4 مليار دولار، لكن إسرائيل لم تسمح بدخول أكثر من 0.1% من المواد اللازمة. فما الذي حدث؟ تعهّدات طارت، ودمار بقي، وفقر تفشى، وجيل كامل حُكم عليه بالضياع.
واليوم، تُقدَّر تكلفة الإعمار بـ80 مليار دولار، لكن لا أحد يدفع، لا أحد يجرؤ على بناء ما ستقصفه إسرائيل لاحقًا. أما الفلسطينيون، فمحاصرون بين جوع السياسة ونفاق الاقتصاد.
الفرصة المسروقة.. وخرائط البديل
في وقت كان يمكن أن تتحول فيه غزة إلى مركز اقتصادي متكامل، وميناء عالمي لتجارة المتوسط، وسوقٍ للطاقة، ومنتجع على ضفاف الشرق، تم اختزالها إلى "منطقة أمنية خطرة" يُنصح بتطهيرها ديموغرافيًا.
أما البديل المطروح من بعض العواصم الغربية، فهو التهجير القسري إلى أي مكان في العالم، بعد أن فشل مشروع التوطين في سيناء، وهو ما أكدته وثائق "أورورا" وآليات التفاوض في الكواليس.
لكن غزة لن ترحل، لن تُغريها حزم التوطين، ولا تفتنها الوعود الدولية الزائفة، ومن تحت الركام يخرج الطفل ليحمل كتابه، ومن بين الأنقاض تنهض الأم لتطبخ بما تبقى من رماد الخشب، ومن قلب الحصار يولد الإصرار.
كما أن أهل غزة يؤمنون بأن الأرض ليست للبيع، وأن الثروات ليست لعقود الشركات، وأن غزة وُلدت من رماد المجازر، وعاشت في قلب العاصفة، ولن تذوب في معادلات المال.
أما العالم، فعليه أن يقرر: هل سيبقى متفرجًا على تهجير شعب كامل من أرضه، أم سيكسر صمته، ويعيد للحق بوصلته، وللإنسان كرامته؟
د. حماد الرمحي
خبير التخطيط الاستراتيجي والتحول الرقمي