في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه القيم، تأتي واقعة كحادثة الاعتداء المؤلم على فتاة بالإسكندرية لتوقظ الضمير الغافل، وتدق ناقوس الخطر في مجتمع بحاجة ماسة إلى وقفة مع النفس، وإعادة ترتيب لأولويات الأخلاق والتربية.
لقد آلمنا ما جرى، وأوجع ضمائرنا مشهد الشاب الذي لم يكتفِ بالتحرش اللفظي، بل طغى وتجبر وركل فتاةً في الشارع العام، لا لشيء إلا لأنها رفضت الانصياع لمعاكساته السافرة.
مشهد يبعث على الخجل من الانحدار السلوكي، ويستدعي قول النبي ﷺ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (رواه البخاري).
هذه ليست مجرد "واقعة"، بل جريمة مكتملة الأركان شرعًا وقانونًا وإنسانيًا. وكل تبرير لهذا الفعل المشين هو مشاركة ضمنية في الجريمة. فلا اللباس مبرر، ولا السلوك الشخصي حجة، ولا الصمت ذريعة.
إن المرأة في شريعتنا مصونة الكرامة، مكرّمة المقام، يحرم إيذاؤها قولًا أو فعلًا أو تلميحًا، ولا يُسمح بالتعرض لها بأي شكل من أشكال الانتهاك.
وكم من مرة أكّد رسول الله ﷺ على أن الكرامة لا تُمس، والعِرض لا يُداس، والحياء أصل الدين.

التحرش جريمة لا علاقة لها بالمظهر.. بل بالتربية
للأسف، لا يزال البعض يحاول تعليق أسباب التحرش على شماعة "اللباس" أو "السلوك الشخصي"، وهي ذرائع باطلة يرفضها الدين والعقل معًا، فالتحرش فعل عدواني نابع من خلل أخلاقي وتربوي، وليس من مظهر خارجي.
وإذا كان من العار أن تُلام الضحية، فإن الأعظم جرمًا هو تبرير جريمة المعتدي، أو التساهل في حقه بدعوى "قلة الأدب" أو "الطيش الشبابي".
إنّ الفتاة التي تُهان اليوم في الشارع، قد تكون أختك أو ابنتك أو زوجتك غدًا. فهل ترضى بذلك؟
إن التحرش لا يمسّ جسدًا فحسب، بل يُدمّر نفسًا، ويهز الثقة، ويدمر أمن المجتمع. وهو ليس جريمة فردية، بل مؤشر على خلل اجتماعي أوسع، يتطلب أن نقف جميعًا أمامه بمسؤولية:
- الأسرة في البيت
- المعلم في المدرسة
- الإعلامي في الشاشة
- الداعية في المنبر
- والسلطة في تطبيق القانون

مسؤولية المجتمع في إعادة الاعتبار للأخلاق
إن علاج هذه الآفة لا يكون بالخطاب الحماسي فقط، بل بمنظومة متكاملة تبدأ بالتربية الأسرية على القيم واحترام الغير، مرورًا بالتعليم الذي يغرس مفاهيم الشهامة والمروءة، وليس انتهاءً بمنظومة قانونية رادعة تقتصّ للضحايا، وتُشعر كل معتدٍ أن للكرامة حرّاسًا.
ولا بد أن يعي شبابنا أن الرجولة الحقة لا تُقاس بعضلات تُرفع على الضعفاء، بل بأخلاق تحفظ الكرامة، وبحِلم يَكبح جماح الغضب، وبنُبل يرفض الانزلاق إلى الوضاعة.
ولتكن المساجد، والمدارس، والجامعات، والإعلام، أدوات لترسيخ هذه القيم، لا منصات للتهاون أو التبرير.
تحية للضحايا.. لا تصمتوا عن الظلم، وتحية تقدير إلى كل فتاة شجاعة رفضت أن تُهان وسجلت موقفًا نبيلًا.
وأدعو من مكاني هذا: لا تصمتوا على التحرش.. فالصمت شراكة غير مقصودة في تكرار الجريمة، وإن لم نعلّم أولادنا أن الاحترام هو أصل الرجولة، فسنحصد أجيالًا لا تعرف من الرجولة سوى العنف، ولا من القوة سوى الاعتداء.
د. مظهر شاهين
إمام وخطيب مسجد عمر مكرم