في زمن لم يعد فيه الصمت ممكنا ولم تعد فيه الخصوصية قائمة يواجه جيل كامل أزمة هوية غير مسبوقة، ليس لأنهم بلا قيم أو بلا إرث حضاري ، ولكن لأن المرايا التي يرون فيها أنفسهم مكسورة أو بالأحرى مشوهة بألوان زائفة وأضواء مصطنعة. نحن أمام جيل يعيش أكثر مما ينبغي أمام شاشة صغيرة ويرى نفسه من خلال عدد الإعجابات والتعليقات قبل أن يراه في عيون أسرته أو مجتمعه. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يعرّف الشباب بأنفسهم وسط هذا الضجيج الإلكتروني؟
لقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة كبرى لإعادة تشكيل الوعي، هي ليست مجرد أدوات ترفيه أو تبادل أخبار بل مصانع متكاملة لصناعة صور ذهنية عن الذات والعالم. في السابق كان الشاب يعرف نفسه عبر تفاعله مع محيطه: المدرسة، الأسرة، الأصدقاء، المسجد أو الكنيسة، ثم الشارع بما يحمله من تجارب الحياة الحقيقية. أما الآن فالمرآة الأوضح أمامه هي "الخوارزميات"، التي تختار له ما يراه وتحدد له من يُعجب به وتوجه ذوقه ورغباته بل وأحلامه.
خطورة هذه المرايا الجديدة أنها لا تعكس الحقيقة بل تقدم صورة مُفلترة مُعالجة بالبرامج مُحمَّلة بمعايير لا تشبه واقعنا ولا ثقافتنا. وهكذا يجد الشاب نفسه يقارن حياته البسيطة بتلك الصور البراقة التي يراها فيشعر بالعجز أو النقص أو حتى انعدام القيمة. إننا بصدد صناعة "جيل بلا مرآة"، لأنه لم يعد يرى نفسه بوضوح بل يرى ظلا مشوشا لما تريده المنصات أن يكون عليه.
الأزمة الأخطر تكمن في أن هذا الانكسار النفسي يفتح أبوابا لمشكلات اجتماعية أوسع: فقدان الانتماء الشعور بالعزلة تراجع الثقة بالنفس وربما انجراف البعض وراء تيارات متطرفة أو أنماط استهلاكية مدمرة، فما الذي يبقى من هوية الإنسان حين يتحول إلى رقم في سباق "المتابعين"؟ وما الذي يبقى من طموحه إذا صار همه جمع الإعجابات أكثر من بناء الذات؟
لكن رغم قسوة الصورة لا يعني ذلك أن الجيل ضائع أو أن المستقبل مظلم. الشباب ما زالوا يملكون طاقة هائلة ومخزونا من الإبداع غير المحدود. المشكلة ليست فيهم بل في الأدوات التي تشوش على مساراتهم. هنا تأتي مسؤولية المجتمع بمؤسساته التربوية والإعلامية والثقافية لتوفير بدائل حقيقية: أن تكون هناك منصات وطنية وآمنة تُبرز القدوة وتُعيد الاعتبار للقيم وتفتح أبواب النقاش الحر الراقي بدلا من السطحية والفوضى.
كما أن الأسرة تظل الحصن الأول. لا يمكن للأب أو الأم أن يكتفيا بالشكوى من "السوشيال ميديا"، بينما يتركون أبناءهم وحدهم في بحرها. الحوار اليومي، الاحتواء، بناء الجسور العاطفية والفكرية، كلها أدوات لمساعدة الشاب على أن يرى نفسه في مرآة أسرته قبل مرآة الآخرين. وفي المقابل يبقى دور المدرسة أساسيا ليس كمكان لتلقين المناهج بل كبيئة لبناء شخصية متوازنة تُعلّم الطالب أن يقيم نفسه بمعايير العلم والقيم لا بمعايير "الترند".
أما الإعلام والفن فمسؤوليتهما مضاعفة. فإذا استمرا في تقديم نماذج سطحية باعتبارها رموزا للنجاح فلن نلوم الشاب حين يطارد السراب. لكن لو قرر الإعلام أن يُعيد الاعتبار للمبدع الحقيقي، وللعالم، وللشخصية الوطنية المخلصة فإن الشباب سيجد أمامه صورا صافية تعكس وجهه الحقيقي.
الأمر لا يتعلق بمنع التكنولوجيا أو رفض التطور. فالسوشيال ميديا واقع لا يمكن إلغاؤه ، لكنها تحتاج إلى وعي مضاد يحمي الشباب من الانجراف وراء أوهامها. المطلوب أن نُعلّم أبناءنا كيف يتعاملون مع الشاشة كوسيلة لا كمرجع أعلى. أن يعرفوا أن القيمة لا تُقاس بالرقم وأن الإنسان لا يتحدد بما يراه الآخرون عنه بل بما يصنعه هو لنفسه ولمجتمعه.
جيل اليوم ليس بلا هوية لكنه جيل يبحث عن مرآة صافية. فإذا لم نوفرها نحن سيبقى يفتش عنها في زوايا الشبكات والبرامج ليجد نفسه أمام صور مشوهة تزيد غربته. التحدي الأكبر إذن ليس في مواجهة التكنولوجيا ، بل في استعادة المعنى: معنى أن يكون للشاب جذور يستند إليها وأفق ينظر نحوه وقدوة يقتدي بها.
في النهاية الجيل الذي نراه اليوم على الشاشات ليس نسخة ضائعة بل فرصة كبرى. إنه الجيل الذي يملك القدرة على أن يبدع ويغيّر ويقود إذا امتلك أدوات الوعي والتمييز. وإذا أدرك أن المرآة الحقيقية ليست شاشة مضيئة بل ضوء داخلي لا ينطفئ. هذا الضوء هو الهوية هو الانتماء هو الإيمان بالذات. وبه فقط يمكن أن يعرف الشباب أنفسهم ويصنعوا صورة أجمل لمستقبل أوطانهم.
- تابع موقع الأيام المصرية عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
- تابع موقع الأيام المصرية عبر تطبيق (فيسبوك) اضغط هــــــــــنا
- تابع موقع الأيام المصرية عبر تطبيق (تويتر) اضغط هــــــــنا
موقع الأيام المصرية، يهتم موقعنا بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، ونقدم لكم خدمة ومتابعة شاملة ومجموعة كبيرة من الأخبار داخل الأقسام التالية، أخبار، رياضة، فن، خارجي، اقتصاد، الأيام TV، حوادث، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، أخبار مصر، سعر اليورو، سعر العملات ، جميع الدوريات.