يوم المعلم العالمي، يعد الخامس من أكتوبر من كل عام مناسبةً عالميةً للتأمل في جوهر العملية التربوية ودور المعلم في صياغة وعي الإنسان وبناء المجتمع، ففي هذا اليوم يتوقف العالم احترامًا لمهندسي العقول وحملة الرسالة، إدراكًا بأن المعلم ضمير الأمة وعقلها المفكر، وركيزة نهضتها الثقافية والمعرفية، وقد أقر هذا اليوم ليكون تكريمًا عالميًا للمعلمين وتقديرًا لجهودهم في تنشئة الأجيال وبناء الإنسان، وإعادة الاعتبار للمعرفة بوصفها رسالة أخلاقية وإنسانية تتجاوز حدود المهنة إلى أفق القيم والمبادئ.
وأصبح يوم المعلم العالمي مناسبةً للتأمل في أدوار المعلم المعاصر، ودعوة إلى إعادة التفكير في موقعه كقائد للوعي ومهندس للمعنى في وقت تتبدل ملامحه على نحو مذهل، وتتقاطع فيه مصادر المعرفة وتتشابك على نحو غير مسبوق، وفي خضم هذا التدفق المعرفي الهائل، تبرز الحاجة إلى معلم يمتلك البصيرة التي تحسن توجيه المعرفة وتوظيفها لخدمة الإنسان والمجتمع، وصون جوهر التربية باعتبارها الجسر الذي يربط بين العقل والقيمة، وبين المعرفة والضمير، لتبقى العملية التعليمية فعلًا أخلاقيًا يسهم في بناء الإنسان بقلوب وعقول واعية.
وتعود فكرة الاحتفاء بيوم المعلم العالمي إلى عام 1994، بمبادرة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، إحياء لذكرى توقيع التوصية الخاصة بأوضاع المعلمين الصادرة عام 1966، التي مثلت آنذاك تحولًا نوعيًا في الوعي الدولي بدور المعلم ومكانته، فقد وضعت هذه التوصية للمرة الأولى إطارًا دوليًا يحدد حقوق المعلمين ومسؤولياتهم، ويؤكد أهمية إسهامهم في التنمية البشرية المستدامة، ومنذ ذلك الحين أصبح الخامس من أكتوبر منبرًا عالميًا للتفكر في قضايا التعليم والمعلمين، وفرصةً لتقييم مدى التقدم في تحقيق العدالة التعليمية، وتحسين جودة الممارسات التربوية، وتعزيز الكفاءات المهنية داخل الأنظمة التعليمية المختلفة، في سياق يؤكد أن الارتقاء بالمعلم هو المدخل الرئيس لإصلاح التعليم وبناء الإنسان والمجتمعات.
اقرأ أيضًا:
اللياقة المعرفية والفكرية.. مدخل استراتيجي لبناء الإنسان
ويعكس البعد الإنساني ليوم المعلم العالمي إدراكًا عميقًا للدور التاريخي الذي اضطلع به المعلم في صناعة الحضارة وتشكيل الوعي الإنساني، فمنذ فجر التاريخ كان المعلم حامل النور الذي يبدد ظلمات الجهل، والمرشد الذي علم الإنسان كيف يسائل العالم، ويكتشف ذاته، ويعيد بناء وجوده في ضوء القيم والمعرفة، ومن ثم فإن تكريم المعلم هو احتفاء بالمعنى الإنساني للمعرفة ذاتها، وبالقدرة الفريدة على تحويل التعليم من مجرد نقلٍ للمعلومات إلى فعلٍ يوقظ الوعي، ويستنهض العقل، ويغرس القيم، إنه تكريم لمن يجعل من التعليم رسالةً لبناء مستقبلٍ أكثر عدلًا وإنسانية، حيث تتوازن المعرفة مع الأخلاق، والعقل مع الضمير.
ويواجه المعلم اليوم واقعًا تربويًا بالغ التعقيد تتداخل فيه الثورة الرقمية والعولمة الثقافية وضغوط السوق والتحولات القيمية، الأمر الذي أعاد تشكيل أدواره ومهامه وأصبح موجهًا وميسرًا وملهمًا، يمتلك مهارات التفكير النقدي، والاتصال الفعال، والقدرة على التكيف مع التغير المستمر، ومع ظهور معطيات الثورة الصناعية الرابعة وما أفرزته من أنماطٍ جديدة للتعلم قائمة على الذكاء الاصطناعي والعاطفي والتعلم الآلي والتقنيات التفاعلية، دعت الحاجة إلى إعادة تعريف دور المعلم بوصفه رائدًا في إدارة المعرفة، وقادرًا على دمج التكنولوجيا في التعليم دون أن يفقد جوهره الإنساني وقيمه التربوية الأصيلة.
كما يواجه المعلم تحديات قيمية ومجتمعية تتمثل في تراجع المكانة الاجتماعية للمهنة، وتغير نظرة الأجيال إليها، مما يستدعي إعادة بناء صورة المعلم كمثقف عضوي يربط بين الفكر والممارسة، ويؤسس لجيل واع بقضايا وطنه وقادر على بناء مستقبله، فالمعلم الحقيقي هو الذي يتجاوز حدود الفصل الدراسي ليصبح فاعلًا ثقافيًا واجتماعيًا يسهم في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام نحو قيم المواطنة والمسؤولية والنهضة، ومن ثم، فإن تطوير التعليم يبدأ من تعزيز مكانة المعلم وتمكينه بالقيم والمهارات التي تؤهله ليكون قائدًا فكريًا وروحيًا، فالمعلم هو الضمانة الأخلاقية لاستمرار الوعي الإنساني، وهو حجر الأساس في أي مشروع وطني يستهدف بناء الإنسان وصون هويته في مواجهة التحديات العالمية المتسارعة.
وتستند مهنة التعليم إلى أساسٍ فلسفي عميق يقوم على أن الإنسان هو غاية التربية ووسيلتها في، وأن المعلم هو الفاعل الرئيس في ترجمة هذا المبدأ إلى واقعٍ حي ملموس، من خلال تحويل المعرفة من مجرد محتوى ذهني إلى تجربة إنسانية نابضة بالحياة، فكل درس يقدمه المعلم هو فعل تربية وبناء للضمير قبل أن يكون عملية تعليمٍ للعقل؛ إذ يبث في طلابه روح الفضيلة والانتماء، ويغرس فيهم قيم التفكير الحر، واحترام الاختلاف، والإيمان العميق بقيمة العمل والإتقان، وهو بذلك يحيل المعرفة إلى أفقٍ أخلاقي وإنساني، يجعل من العملية التعليمية مسارًا لإحياء الإنسان في داخله، وترسيخ المعنى في سلوكه، ليظل التعليم رسالة تتجاوز حدود المهنة إلى فضاء الرسالة والقيمة.
وتتسق هذه الرؤية مع الاستراتيجية الوطنية للتعليم ورؤية مصر 2030، التي تضع بناء المعلم في صميم مشروع الدولة لبناء الإنسان المصري الجديد، فتمكين المعلم معرفيًا ومهاريًا وأخلاقيًا هو المدخل الحقيقي لتحقيق التنمية الشاملة، وتعزيز الأمن الفكري، وترسيخ الانتماء الوطني، فالمعلم حين يُؤهَّل ليكون قائدًا تربويًا فاعلًا، وبذلك يصبح قوة تنموية مضاعفة، حيث يشارك في بناء الوعي الجمعي وترسيخ ثقافة الإنتاج والإتقان، ويسهم في تحويل المدرسة إلى بيئة ابتكار قادرة على استيعاب التغيرات وتسخيرها لخدمة المجتمع.
ويتطلب المستقبل معلمين يمتلكون المرونة الذهنية، والقدرة على التعلم المستمر، والوعي بالتحولات العالمية، فالمعلم في عالم الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أكثر إنسانية، لأنه يمثل البعد الذي لا تستطيع التكنولوجيا أن تحل محله، حيث يمتلك البصيرة الأخلاقية، واللمسة الإنسانية، والقدرة على الإلهام، ولذلك ينبغي أن تتجه السياسات التعليمية إلى إعداد المعلم كمثقف تربوي ومفكر نقدي، قادر على توظيف المعرفة العلمية لخدمة القيم الإنسانية والوطنية، وعلى تحويل المؤسسة التعليمية إلى فضاء للحوار والعلم والمعرفة.
ونؤكد أن الاستثمار في المعلم لا يقل أهميةً عن الاستثمار في البنية التحتية أو التطور التكنولوجي، لأن بناء الإنسان هو الأصل الذي يقوم عليه كل مشروع حضاري، والقاعدة التي تشيد فوقها نهضة الأمم، ومن هذا المنطلق، يصبح تطوير التعليم مرهونًا بتنمية المعلم وإعداده إعدادًا نوعيًا يواكب تحديات العصر ومتطلباته، عبر برامج أكاديمية ومهنية متكاملة تعزز قدراته على الإبداع، والبحث، والتقويم، والابتكار التربوي المستدام، ويتطلب ذلك أيضًا ترسيخ ثقافة التعاون والتكامل بين الأسرة والمدرسة والإعلام، لبناء بيئة تربوية حاضنة للمعرفة والشغف والإبداع، تسهم في توجيه الطفولة نحو الاكتشاف، والشباب نحو الوعي، والمجتمع نحو التنمية.
ويبقى يوم المعلم العالمي مناسبة لتجديد العهد لمن يحملون على عاتقهم أشرف رسالة في الوجود رسالة بناء الإنسان فالمعلم هو ذاكرة الأمة وضميرها الحي وهو من يزرع في النفوس الأمل والشغف، ويحول المعرفة إلى طاقة بناء وارتقاء بالوعي الإنساني، وحين نكرم المعلم، فإننا نحتفي بالقيمة التي تحفظ للأمم إنسانيتها.
=========================
أ.د/ مها محمد عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر