
موقف استثنائي يعكس انكسار الصمت داخل مجتمع طالما نُظر إليه كداعم للحرب، حيث وقّع 2000 يهودي من الشخصيات المؤثرة عالميًا على وثيقة تطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بوقف الحرب في غزة ورفض تهجير الفلسطينيين أو استخدام الحصار كسلاح جماعي.
هذه الوثيقة لم تكن مجرد موقف أخلاقي، بل صرخة حقيقية من داخل بنية الاحتلال، تعبّر عن رفض واضح للممارسات الوحشية بحق المدنيين، وتكشف عمق الانقسام الأخلاقي داخل المجتمع اليهودي ذاته.
المبادرة تمثّل منعطفًا إنسانيًا مهمًا يسلّط الضوء على اتساع الرفض العالمي للعدوان، ويُعيد طرح التساؤلات حول شرعية الحرب ونتائجها الكارثية على القيم والمبادئ التي يدّعي العالم الدفاع عنها.
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، يعيش قطاع غزة واحدة من أكثر مراحل الإبادة المنظمة قسوة في التاريخ الحديث.
أكثر من 60,000 فلسطيني لقوا حتفهم حتى نهاية يوليو 2025، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، بينما تشير بعض التقديرات الأكاديمية مثل تقرير The Lancetإلى أن العدد قد يتجاوز 93,000 حال احتساب الوفيات غير المباشرة الناتجة عن الجوع والمرض والحصار.
من بين هؤلاء الضحايا، قرابة 70% من المدنيين، وأكثر من نصفهم من النساء والأطفال، بحسب بيانات الأمم المتحدة. ما يقارب 150,000 جريحًا ومصابًا، مئات منهم فقدوا أطرافهم، وآلاف الأطفال أصبحوا يتامى في أيام معدودة.
الواقع الميداني في غزة كارثي بكل المقاييس.
أكثر من 80% من المساكن مدمرة كليًا أو جزئيًا,البنية التحتية الصحية منهارة؛ فمعظم المستشفيات إما خرجت عن الخدمة أو تعمل بأقل من 20% من قدرتها.
أُجبر ما يزيد عن 1.7 مليون فلسطيني على النزوح من بيوتهم ,الأطفال في غزة يموتون جوعًا، حرفيًّا، كما تؤكد تقارير موثقة من وكالات أممية ومنظمات إغاثة دولية مثل الأونروا وأطباء بلا حدود.
في يوليو وحده، توفي أكثر من 30 طفلًا بسبب سوء التغذية الحاد والجفاف، في مشهد يعكس مدى الانحدار الأخلاقي لهذه الحرب.
في المقابل، دفع الجانب الإسرائيلي أيضًا كلفة بشرية واقتصادية هائلة.
الهجوم الذي شنّته “حماس” في أكتوبر 2023 أدى إلى مقتل حوالي 1,200 إسرائيلي، معظمهم من المدنيين، إلى جانب أكثر من 400 جندي خلال العمليات اللاحقة.
الاقتصاد الإسرائيلي تلقى ضربات موجعة؛ انخفض النمو الاقتصادي بنسبة 2.5% خلال عام 2024، وتكبدت إسرائيل أكثر من 20 مليار دولار في نفقات الحرب، بحسب وزارة المالية الإسرائيلية. أما المجتمع الإسرائيلي، فهو يعيش حالة من الاستقطاب غير المسبوق، حيث خرج مئات من ضباط الأمن السابقين، ورجال السياسة، وشخصيات عامة، يطالبون بوقف الحرب، مع ازدياد الاحتجاجات في تل أبيب ومدن أخرى.
توقيع 2000 يهودي مؤثر على وثيقة تدعو لوقف الحرب ليس حدثًا عابرًا، بل تعبير عن عمق الأزمة الأخلاقية التي تسببت بها هذه الحرب، حتى في أوساط من يفترض أنهم من داعمي إسرائيل تقليديًا.
هؤلاء الرافضون يرون في استمرار الحرب ليس حماية للدولة، بل تدميرًا لصورتها الأخلاقية، وخرقًا لكل الأعراف الإنسانية والدولية.
إنهم يدركون أن الاحتلال لا يمنح أمنًا، وأن التجويع لا يصنع سلامًا، وأن الدم لا يولد إلا مزيدًا من الدم.
إن الحديث عن وقف الحرب لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة إنسانية وأخلاقية. العالم مطالب اليوم بالتحرك العاجل لفرض هدنة دائمة، وفتح الممرات الإنسانية، وإعادة إعمار ما دُمر، وإعادة النظر في أصل المشكلة: الاحتلال والاستيطان والسياسات العنصرية.
الحرب في غزة لم تعد قضية فلسطينية فقط، بل جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية.
وحين يصرخ 2000 يهودي “كفى”، فعلينا أن ننصت جيدًا، فربما تكون هذه هي الصرخة التي توقف هذا النزيف الأبدي.