لا يزال الوطن يئن من جراحه الصامتة، وتظل الطفولة في كثير من قراه وعزبِه وأطرافه أشبه بحلم مؤجل، تُسرق من أعين الأطفال قبل أن تتفتح، ويُصادر منها الفرح قبل أن يعرف طريقه إلى ملامحهم، بسبب مأساة مأساة عمالة الأطفال في مصر.
إن مأساة موت 19 فتاة من ضحايا قرية السنابسة وقبلهن موت فتيات العنب العاملات في نهر النيل، والتي أودت بحياة 11 طفلة تتراوح أعمارهن حول 14 عامًا، ليست مجرد حادث عرضي، بل جرس إنذار مؤلم يعكس حجم الكارثة التي تُدار بصمت، وتُنتهك على مرأى ومسمع من الجميع.
عمالة الأطفال: حين يُثقل الفقر أكتاف البراءة
وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يبلغ عدد الأطفال في مصر نحو 40.9 مليون طفل، أي أن أكثر من 38% من سكان البلاد هم دون سن الثامنة عشرة. لكن الواقع يقول إن أكثر من 2.67 مليونًا من هؤلاء الصغار يعملون بشكل مباشر، وغالبيتهم في ظروف غير آدمية، وفي قطاعات غير رسمية لا تعرف قوانين ولا رقابة، وسط صمت شبه تام من الجهات المحلية، وفي مقدمتها المحافظون.
إن مأساة هؤلاء الأطفال، خاصة في المناطق الريفية والصعيد، لا تنفصل عن مشهد الفقر والبطالة والإقصاء من التعليم. تشير الأرقام إلى أن نسبة التسرب من التعليم في المرحلة الابتدائية بلغت 0.2%، وتزداد إلى 1.7% في المرحلة الإعدادية، مع تفاوت واضح بين الجنسين. في الريف، تسرب البنات أكبر، والفقر أشد، والحاجة أكثر قسوة.

بنات العنب.. ضحايا بلا خطيئة
في الحقول الممتدة بمحافظات مثل المنوفية والفيوم والمنيا، تنخرط فتيات صغيرات -بعضهن لم يبلغن الرابعة عشرة- في أعمال شاقة مثل جني محصول العنب. يتقاضين ما بين 2000 إلى 3000 جنيه شهريًا، مقابل يومٍ مرهق تحت الشمس، دون تأمين أو حماية، في خرق واضح لكل القوانين والأعراف. بعضهن هن المعيلات الوحيدات لأسرٍ فقيرة، بعد غياب الأب أو مرضه أو بطالته.
حادثة غرق "معدية فتيات العنب" لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما بقيت العمالة غير المنتظمة في القرى خارج رقابة المحافظين، وطالما بقيت مديريات العمل غائبة عن الميدان، وطالما لم يتوقف التعامل مع ملف "عمالة الأطفال" بوصفه تفصيلة هامشية، وليس جريمة اجتماعية مكتملة الأركان.
تشريعات قائمة.. لكن بلا تنفيذ
القانون المصري، وتحديدًا قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، يمنع تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن 14 عامًا أو إتمام التعليم الإعدادي، ويحدد ساعات العمل بست ساعات يوميًا فقط، مع ضرورة تخصيص ساعة للطعام والراحة. كما يُلزم صاحب العمل بإخطار الجهة الإدارية بأسماء الأطفال العاملين ونوع العمل المكلفين به.
ورغم تغليظ العقوبات في التعديلات الأخيرة، والتي تشمل غرامات تبدأ من ألف جنيه وتصل إلى غلق المنشأة لمدة ستة أشهر، فإن الواقع أن 97% من منشآت القطاع الخاص لا تلتزم بهذه القوانين، بل إن الغالبية الساحقة لا تعترف أصلًا بوجود مثل هذه التشريعات.

من يتحمل المسؤولية؟
بموجب قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، وقانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، تقع مسؤولية مراقبة تطبيق هذه القوانين على عاتق المحافظين الـ27، بالتعاون مع وزارة التنمية المحلية (بصفتها المنسق الأعلى للإدارة المحلية)، ووزارة العمل، وأصحاب الشركات، وكل من له صلة بمنظومة التشغيل في مصر.
لكن الواقع يكشف عن غياب تنسيق فعلي بين المحافظين ومديريات العمل. فلا توجد زيارات ميدانية مفاجئة، ولا حملات تفتيش جادة، ولا تقارير دورية تُعرض على الرأي العام، ولا حتى بيانات واضحة حول حجم عمالة الأطفال على مستوى كل محافظة.
استراتيجية بلا تطبيق
رغم وجود استراتيجية وطنية لحماية الطفولة، يشرف عليها المجلس القومي للطفولة والأمومة، وتُلزم كل محافظة بوضع خطة تنفيذية ضمن اختصاصاتها المحلية، إلا أن الواقع يقول إن التنفيذ شبه معدوم. تُكتب التقارير، وتُعرض في المؤتمرات، ثم توضع في الأدراج، بينما يموت الأطفال في المزارع والمصانع والشوارع.
إن الحديث عن عمالة الأطفال يجب أن يتجاوز الطابع الإنشائي، ويُترجم إلى خطة وطنية واضحة على مستويات ثلاثة:
محليًا: على كل محافظ تشكيل لجنة دائمة لمتابعة ملف عمالة الأطفال، بالتنسيق مع مديرية العمل، ومفتشي الأمن الصناعي، ومديريات التربية والتعليم، والمجتمع المدني.
قانونيًا: يجب تفعيل العقوبات الواردة في قانون العمل، وإنشاء سجل وطني للمخالفين، وربط بياناتهم بمنظومة التأمينات، وتحرير مخالفات متكررة ضد المنشآت غير الملتزمة.
اقتصاديًا وتعليميًا: لا يمكن فصل ظاهرة عمالة الأطفال عن الفقر والبطالة. المطلوب هو توسيع برامج الحماية الاجتماعية للأسر الفقيرة، وتوفير حوافز لاستمرار التعليم، وتطوير المدارس الفنية لتستوعب الأطفال المتسربين.
وتبقى كلمة أخيرة:
في بلدٍ يعجّ بالشباب، لا يجب أن يُختزل المستقبل في صورة طفلة غارقة كانت تحاول جمع بضع عنقود عنب لإعالة أسرتها. إن إنقاذ الطفولة من السوق والشارع والمصنع والمزرعة، ليس رفاهية ولا خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية، ومؤشر على جدية الدولة في بناء مستقبل حقيقي.
ليت كل محافظ في مصر ينزل إلى الشارع، وينظر في عيون هؤلاء الأطفال، ويسأل نفسه: ماذا سأقول لهم حين يسألهم التاريخ؟
د. حمدي عرفة
أستاذ الإدارة المحلية وخبير تطوير المناطق العشوائية