الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
الايام المصرية

لم تكن شمس ذلك الصباح في كفر السنابسة بالمنوفية كأي شمس، كانت ثقيلة، كأنها تئن تحت ثقل نذيرٍ قادم. 

رياح خفيفة، لكنها حملت في ثناياها رائحة الفجيعة، قبل أن تهب على قرية كفر السنابسة بالمنوفية، لتجدها قد ارتدت حدادها الأبدي. 

في لمحة عين، تحولت ضحكات فتياتٍ في ريعان العمر، يتنقلن على طريق الحياة، إلى صمتٍ أبدي، بعد أن انحرفت شاحنة عملاقة (تريلا) كوحشٍ طليق، لتبتلع ميكروباصاً صغيراً، حاملاً بين جنباته تسع عشرة زهرةً قبل أن تتفتح.

لم تكن مجرد رحلة عادية، بل كانت رحلة وداعٍ لم يعرفن أنهن يقطعنها، ضاعت معها أحلامٌ في الرابعة عشرة والعشرين، عن مستقبلٍ دراسي، وزواج، وأمومة، وتحولت إلى أشلاء متناثرة على الدائري الإقليمي. 

سقطت الضحكات قبل أن تصل إلى الآذان، وسقطت الأحلام قبل أن تلامس الأرض، والقرية الهادئة صارت جسداً واحداً ينزف، كل بيتٍ فقد زهرة، كل أمٍّ فقدت جنين روحها، كل صديقةٍ فقدت مرآتها.

ها هي الأسماء تتردد كأنين على الألسنة، كشواهد على فداحة الخسارة:  سارة محمد، شيماء فوزي، آية زغلول، جنى محيي، هدير عبد الباسط، ملك عربي، شروق خالد... وغيرهنَّ، تسع عشرة اسماً، صارت تاريخاً للوجع.

تسعة عشر زهرة رحلن بلا موعد، تاركاتٍ خلفهنَّ قلوباً ممزقة، وأمهاتٍ يصرخن في صمت، أو يقلن بمرارة تشقّ الجبال: "ليتني كنت أنا".

أوقفوا نزيف الأرواح تحت عجلات الإهمال

تحت عدسات الكاميرات، تبدأ النيابة تحقيقاتٍ لن تعيد الحياة، ولن تسكّن لوعة أمٍّ ثكلى، تم التحفظ على السائق القاتل، لكن أين العدالة التي تمنع الكارثة التالية؟ أين العدالة التي تكسر عجلة الإهمال التي تدور فوق دماء الأبرياء؟

حادث كفر السنابسة ليس استثناءً، بل حلقةٌ في مسلسل رعبٍ مألوف، فشاحنات الموت تجوب طرقنا بلا رقيب، والطرق الإقليمية تتحول إلى مقابر مفتوحة، حتى أصبحنا نعيش في انتظار دورنا في الموت؟

أرقام ضحايا حوادث الطرق ومصائد الموت على الطرق السريعة مفزعة وغير مسبوقة في أي دولة في الشرق الأوسط، حيث تشهد مصر سنوياً سقوط أكثر من 7000 شهيد تُزهق أرواحهم على طرق مصر، فضلاً عن عشرات الآلاف من الإصابات التي تحيل البشر إلى أشباح.

كما تؤكد الإحصائيات الرسمية أن هناك نحو 56 ألف حادث سنوياً بلا رقيب أو حسيب، رغم إعلانات وبيانات ومؤتمرات الحكومة المتكررة عن خطط واستراتيجيات لمنع حوادث الطرق، إلا أن الدماء ما زالت تُسفك على الأسفلت، والإسعاف ما زال يصل متأخراً ليجد الأحلام قد انطفأت.

السؤال الجوهري الذي يصرخ في وجوهنا جميعاً: كيف سقطت زهور كفر السنابسة، وكيف نمنع الإهمال من أن يكون منجماً؟ كيف نحمي أبناءنا من أن يصيروا وقوداً لمشاريع تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة؟ هل تُوضع دماؤهم في ميزان الأولويات كما تُوضع الجسور والطرق؟

كفر السنابسة ليست مجرد نقطة على خريطة المنوفية، إنها صرخة مدوية من كل قرية، وهمسة خوف في قلب كل بيت مصري، إنها مرآة تكشف هشاشة الحياة أمام جبروت الإهمال. 

لقد حان وقت الصدق، وقت المساءلة، وقت الفعل الحقيقي، قبل أن تتحول كل بقعة في مصر إلى "كفر" للحزن، قبل أن نُطبع على الألم، وقبل أن يصير الموت تحت العجلات مجرد خبرٍ عابر في نشرات الصباح.

تم نسخ الرابط