نعيش مشهد يعكس عمق الأزمة الاقتصادية العالمية، باتت المتاحف والمؤسسات الثقافية تواجه تهديداً غير مسبوق فكيف يمكنها الاستمرار في أداء رسالتها أمام انكماش الميزانيات العامة وتفاقم أعباء الديون؟
في زمنٍ يُقدَّر فيه كل شيء بميزان السوق ولغة الأرقام، لم يَعُد التراث الإنساني في مأمن. من قطع فنية نادرة إلى تحف أثرية لا تُقدَّر بثمن، تجد هذه الكنوز نفسها عُرضة للبيع، في محاولة يائسة لإنقاذ ميزانيات متداعية.
تتحول اليوم روائع التاريخ إلى أدوات إنقاذ اقتصادي، تُقدَّر قيمتها في المزادات العالمية بالدولار واليورو، بدل أن تُثمَّن كجزء من هوية الشعوب وذاكرتها الجمعية. هذا التحول يثير أسئلة ملحّة حول مستقبل التراث في عصر الأزمات، وحول مدى قدرة العالم على صون ذاكرته حين يُهدد الحاضر استدامة الماضي.
هكذا يتحول التراث — الذي يُفترض أن يكون ذاكرة الشعوب وصِمَام أمان هويتها — إلى وسيلة إنقاذ اقتصادي في لحظة تاريخية حرجة. لكن ما الثمن الحقيقي لهذا التوجّه؟ وما الذي نخسره حين تُباع هوية الأمم بالمزاد العلني؟
لم نتكلم عن تحفة فنية أو تراثية بل نتكلم عن تاريخ عن ثقافة وهوية وذاكرة شعوب وأمم فى العالم.
التراث يُباع لإنقاذ الاقتصاد ويصبح التراث نفسه هو الضحية أوالمنقذ.... مفارقة العصر!
عندما تقرر مؤسسة ثقافية عرض "قفازات الرئيس أبراهام لينكولن" في مزاد علني لسداد ديون متزايدة، فنحن لا نشهد مجرد صفقة، بل مفارقة تاريخية: هل يُباع الماضي.
“لتسديد ديون متراكمة.. قفازات لينكولن الملطخة بالدماء تُباع بأكثر من 6 ملايين يورو”... تصدر هذا العنوان المشهد الاقتصادي الثقافي الفنى والتراثي عبر المنصات والمواقع المتخصصة وذلك فى النصف الثاني من شهر مايو 2025 فقد باع مزاد علني أُقيم في الولايات المتحدة مجموعةً من الأغراض المتعلقة بالرئيس الأمريكي السابق أبراهام لينكولن، من بينها القفازات الجلدية الملطخة بدمه والتي ارتداها ليلة اغتياله بأكثر من ستة ملايين يورو، وذلك لتسديد دين يعود إلى مؤسسة لينكولن الرئاسية منذ عشرين عامًا.
لم تعد الحالة الأولى ولن تكون الأخيرة إذا أصرت المؤسسات والحكومات على اتباع نفس النهج لحل الازمات الاقتصادية.
وعلى هذا النهج نتذكر معأ بيع مقتنيات الأميرة ديانا – مزاد نيويورك (1997) مزاد علني على 79 قطعة من فساتينها.
والسبب دعماً لمؤسسات خيرية، لكن أيضًا لتغطية مصاريف خاصة بالطلاق، وقد جمع 3,26 مليون دولار.
أما في عام 2023، حطّمت "Julien’s Auctions" الأرقام القياسيّة من خلال بيع ثوب ارتدته الأميرة ديانا في العام 1985، وهو من توقيع جاك أزاجوري، بمبلغ 1,4 مليون دولار. وفي عام 2024، تمّ بيع زوج من أحذية ديانا مُقابل 390 ألف دولار في مزاد علني. وهذا ما شجّع الدار على طرح المزيد من مُقتنيات العائلة المالكة البريطانية بشكل عام والأميرة ديانا بشكل خاص للبيع في مزاد علني.
والجدير بالذكر يُقام مزاد علنى في 26 يونيو الجاري 2025 بتنظيم من دار "Julien’s Auctions "الأميركيّة للمزادات. لبيع أكثر من 200 قطعة من مقتنيات الأميرة ديانا وسواها من أفراد العائلة المالكة مثل الملكة إليزابيت الثانية ووالدتها الملكة الأم بالإضافة إلى كنوز ملكيّة تعود إلى القرن التاسع عشر. ولم يعلن عن السبب حتى الآن.
وعلى جانب الفنون عرضت لوحة من أعمال الفنان البريطانى جوزيف مالورد وليام تيرنر ضمن مجموعة نمساوية خاصة، للبيع في معرض فيينا مقابل 38 مليون يورو (41 مليون دولار) أبريل 2025، وفقا لما نشره موقع" artnews".اللوحة تعود إلى عام 1840 معروضة في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، تم تأكيد أن القطعة هي عمل أصلي لترنر بعد تحليل موسع أجراه باحثون أوروبيون كجزء من دراسة مستقلة نشرت في وقت سابق من هذا العام. والجدير بالذكر تم بيع "كنوز جامعة كامبريدج" (2005) – بريطانيا كلية "جيسس كوليدج" حيث عرضت بيع لوحة نادرة من أعمال جوزيف مالورد وليام تيرنر بملايين الجنيهات الإسترلينية.والسبب تمويل مشاريع أكاديمية وتجديد مبانٍ تاريخية. والسؤال هنا هل يحق الكلية بيع مقتنيات؟!.
جوزيف مالورد ويليام تيرنر ، المعروف في عصره باسم ويليام تيرنر،كان فنانًا رومانسيًا إنجليزيًا اشتهر برسم المناظر الطبيعية، بالإضافة إلى أعماله في الألوان المائية والطبعات الفنية. رغم الجدل الذي أحاط به خلال حياته، يُنظر إليه اليوم على أنه الفنان الذي رفع فن رسم الطبيعة إلى مستوى يُضاهي الرسم التاريخي. ومع تتبع ومتابعة أعماله الفنية تجد أخبار لا حصر لها من بيع أعماله الفنية فى مزادات علنية ذات مبالغ فلكية.
أما عن المركبات والسيارات نتذكر بيع مجموعة "أمير موناكو" (2008) الأمير ألبرت الثاني باع مجموعة سيارات تاريخية نادرة تعود لوالده الأمير رينيه. والسبب تخفيض التكاليف وتركيز الموارد على الحفاظ على المتاحف الأخرى في الإمارة. وهذا كما ذكرته الأخبار والمواقع حينها.
وفى يوليو 2012 عرضت دار “ارتكوريال” للبيع مجموعة استثنائية من 38 سيارة من مجموعة السيارات القديمة التي يملكها الأمير ألبرت الثاني من بورش وبانهارد وماكسويل وبنتلي...لأنه يريد شراء أخرى. وعلى غلاف الكاتالوج المرافق للمزاد، صورة للأمير رنييه الراحل يتفحص مجموعته بعناية. ويشير نجله ألبرت الثاني، في المقدمة، إلى أن جذور شغف العائلة بعالم السيارات ضاربة أكثر في العمق. فجده الأمير بيار “يقف وراء فكرة سباق الجائزة الكبرى لعام 1929” مشاركاً “في السباق في سيارة (توربيدو)”. وأوضح أمير موناكو “أنه أحب هذه المجموعة كثيراً ويود إثراءها من خلال شراء نماذج جديدة”، مبرراً بذلك طرح بعضها للبيع في مزاد.
وفى يونيو 2018 سمح الأمير ألبرت الثاني، أمير موناكو، بالكشف عن مجموعة السيارات النادرة التي يملكها للإعلام قبل أن تتحول القاعة إلى متحف خاص مفتوح للجمهور. وتضم المجموعة 120 سيارة بعضها نادر والأخرى سيارات تحمل بصمات العائلة المالكة في موناكو.
وحكي الأمير ألبرت أن أول سيارة اقتناها في حياته كانت طراز فولكس فاغن غولف بناقل أوتوماتيكي، ثم غيرها بطراز «غولف جي تي آي». وتلقى الأمير هدية من شركة شيفروليه هي سيارة كورفيت. وبعدها بسنوات اقتنى سيارة بورشه 928 وكانت على حد تعبيره من أفضل السيارات التي اقتناها. وتعتني بالمتحف وسياراته المائة والعشرين ورشة خاصة يمكنها تصنيع قطع غيار لم تعد متوفرة من الشركات. وتعود بعض السيارات في المتحف إلى الأمير رينيه والد الأمير ألبرت ووالدته الأميرة غريس، ومنها سيارات كرايسلر إمبريال لعام 1956 اشتراها الأمير رينيه لزوجته غريس.
ومن أبرز الاخبار العالمية التى أثارت ضجة حول بيع التراث هو إعلان بيع "كنوز ديترويت الفنية" (2013) – الولايات المتحدة، حيث مدينة ديترويت أعلنت إفلاسها، وكانت مدينة الفن والموسيقى في أزمة خانقة. و دار المزادات "كريستيز" قيّمت مجموعة متحف ديترويت للفنون، وكان هناك مقترح ببيعها لسداد الديون. و رغم أن البيع لم يتم، إلا أن التهديد وحده أثار ضجة عالمية حول بيع التراث لإنقاذ الاقتصاد.
أما عن متحف بولندا الوطني الذى أعلن عن بيع قطع تراثية عام (2020) في ظل تقليص الميزانيات الثقافية بعد جائحة كورونا، وعرضت مؤسسات فنية قطعاً أرشيفية للبيع لتغطية النفقات. مما أثار جدل واسع حول "خصخصة التراث" تحت ضغط الأزمات.
لم يعد بيع القطع الأثرية مجرد استثناء، بل أصبح خياراً مطروحاً علناً في العديد من الدول. غير أن هذا التوجه يثير نقاشاً أخلاقياً حادا، هذا النقاش الأخلاقي لم يوقف موجة العروض في دور المزادات العالمية. ففي واقع الأمر، نشهد اليوم تحوّلاً نوعياً في دور المتاحف نفسها. ولفهم خلفيات هذا التحول الخطير، لا بد من التوقف عند السياق الاقتصادي الذي فرض هذا الواقع الجديد. غير أن هذا الحل قصير الأمد يُنذر بعواقب طويلة المدى، تتجاوز خسارة القطع المادية إلى تهديد جوهر الهوية الثقافية. وهنا هل يحق لأي جيل أن يفرّط في إرثه الحضاري تحت وطأة الأزمات الراهنة؟.
فعلى الرغم من سوداوية المشهد، هناك بارقة أمل وما بين الحلول الممكن والبديلة ثمة دعوات متزايدة لإيجاد حلول أكثر استدامة مثل تمويل الثقافة عبر شراكات مبتكرة، أو اعتماد صناديق حماية للتراث. السؤال المطروح: هل يمكن للمجتمع الدولي أن يتبنى استراتيجية تحمي ذاكرته المشتركة دون التضحية بها على مذبح الأزمات المالية؟.