
في قاعة محكمة شرق الإسكندرية كانت العدالة المصرية مع ميلاد جديد وهو ميلاد " التقاضي عن بُعد " الذي أصبح بداية لفصل جديد في مسيرة العدالة الرقمية المصرية.
هناك أعلن المستشار عدنان فنجري، وزير العدل، وبحضور وزير الاتصالات عمرو طلعت، إطلاق منظومة التقاضي عن بُعد، واصفًا إياها نقطة فارقة في إرث مصر القضائي.
التقاضي عن بُعد ليست وسيلة للحفاظ على التاريخ فحسب، بل منصة تضيف إليه صفحات من الإبداع والريادة في تطوير منظومة العدالة.
لم يكن الأمر مجرد إعلان بروتوكولي، بل خطوة استراتيجية جريئة نحو تحديث منظومة العدالة الجنائية، بحيث يمكن إنجاز إجراءات التقاضي دون الحاجة إلى الحضور الشخصي، مما يختصر الزمن، ويخفف الأعباء، ويحفظ الحقوق، ويصون الحريات.

هذه الخطوة، كما أكد الوزير، تجسد رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسي في تيسير سبل التقاضي، والسعي نحو التحول الرقمي الكامل مع الحفاظ على الضمانات القانونية والدستورية، حتى تظل العدالة في متناول الجميع، وفي كل الظروف، مهما كانت طارئة أو استثنائية.
داخل قاعة المحكمة، جرى عرض تجربة حية، القاضي في موقعه المعتاد، والمحامي في مكتبه، والمتهم في محبسه، والجميع متصل عبر شبكة مؤمنة من خطوط الألياف الضوئية التي تجاوز عددها 850 خطًا خلال عام واحد، تدعمها 1530 وحدة اتصال مرئي.
بدا الأمر وكأن جدران المسافات الزمنية والمكانية قد انهارت فجأة، ليصبح التقاضي مساحة مفتوحة لا يحدها سوى حدود القانون، لم تكن هذه التجربة وليدة اللحظة، فقد سبقتها خطوات مهدت الطريق، بدءًا من إطلاق خدمات التقاضي الإلكتروني في المحاكم الاقتصادية عام 2019، ثم تعميم منظومة تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد عام 2020، وصولًا إلى هذا التطوير الذي أدخل الذكاء الاصطناعي لتحويل الصوت إلى نصوص بدقة بلغت 96%.
التجربة المصرية هنا تجد صدى في قصص النجاح العالمية، ففي الإمارات مثلًا عُقد 90% من الجلسات القضائية عن بُعد خلال جائحة كورونا، وهو ما قلص مدة الفصل في بعض القضايا المدنية من ستة أشهر إلى ثلاثة أسابيع، بينما حققت السعودية عبر منصة «ناجز» أكثر من 622 ألف دعوى إلكترونية في عام واحد، وجعلت من ديوان المظالم ثاني أفضل جهة حكومية في التحول الرقمي.
هذه النماذج وغيرها تثبت أن العدالة الرقمية لم تعد رفاهية، بل ضرورة فرضها الواقع وسرعة العصر.
لكن الطريق ليس بلا تحديات، فالبنية التحتية للشبكات قد تتعرض أحيانًا للتعطل، وصورة الفيديو قد لا تنقل دائمًا الإحساس الكامل بالتواصل بين المحامين والمتهمين، ورغم هذه الصعوبات، فإن الأثر الإيجابي ملموس؛ إذ خفضت مصر تكاليف نقل المتهمين بنسبة 70% ووفرت على المتقاضين عناء السفر والانتظار، وفتحت بابًا جديدًا لتسريع الإجراءات دون المساس بحقوق الدفاع أو علانية المحاكمة.
إن التقاضي عن بُعد في مصر اليوم ليس مجرد تقنية جديدة، بل هو وعد بعدالة أكثر سرعة وإنصافًا، وجسر يربط بين الإرث القضائي العريق وروح العصر المتسارعة، هو بداية فصل جديد تُكتب فيه العدالة بحروف من ضوء، وتنتقل فيه قاعات المحاكم من جدرانها الحجرية إلى فضاء رقمي يضمن أن يصل صوت المظلوم، مهما كان بعيدًا، إلى منصة الحكم في لحظته.