
يطرح الكثير من المسلمين سؤالًا يتكرر عند وفاة أحد الأقارب في ساعات المساء: هل يجوز دفن الميت ليلًا؟ وهل يُفضل الانتظار حتى الصباح، أم أن الدفن في الظلام جائز شرعًا؟
هذا التساؤل مشروع، خاصةً في ظل تفاوت الآراء الفقهية حول هذه المسألة، وهو ما يدعو إلى عرض الحكم الشرعي بشكل دقيق، موثق، ومتوافق مع ما ورد في السُنة النبوية وأقوال العلماء.
الخلاف الفقهي حول دفن الميت في الليل
اتفقت معظم المدارس الفقهية على جواز دفن الميت ليلًا، ولكن مع اختلاف في مدى استحباب ذلك. فبعض العلماء قالوا بالجواز المطلق دون كراهة، ومنهم الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وكذلك الشافعي، والثوري، وسفيان بن عيينة، وابن المسيب، وعطاء.
بينما رأى البعض الآخر أن الدفن في الليل مكروه إلا لضرورة، ومن هؤلاء الحسن البصري، وذهب الإمام ابن حزم إلى القول بالتحريم، وتبعه في ذلك الشيخ الألباني في كتابه “أحكام الجنائز”.
وقد استدل القائلون بالجواز بما رواه أبو داود عن الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه، حيث قال: “رأى ناس نارًا في المقبرة، فأتوها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول: ناولني صاحبكم…” وكانت تلك النار للإضاءة أثناء الدفن ليلًا.
كما أوردت كتب السيرة أن كبار الصحابة دُفنوا ليلًا، ومنهم: أبو بكر الصديق، فاطمة الزهراء، عثمان بن عفان، عبد الله بن مسعود، وعائشة رضي الله عنهم جميعًا.
الزجر النبوي والكراهة عند فقدان الحقوق
إلا أن هناك نصوصًا تُشير إلى زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن دفن الميت ليلًا إن ترتب عليه تفويت بعض الحقوق، مثل الصلاة عليه أو تشييعه من قبل جمع من الناس. ففي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:
“مات إنسان كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فمات ليلًا فدفنوه، فلما أصبح أخبروه، فقال: ما منعكم أن تعلموني؟ قالوا: كان الليل وكرهنا أن نشقّ عليك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قبره فصلى عليه.”
كما جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن دفن الميت ليلًا إلا في حال الضرورة، إن كان الدفن يمنع الناس من الصلاة عليه، أو يؤثر على كرامة الميت أو جودة التجهيز.
الخلاصة الفقهية: ضوابط الجواز وتقدير الضرورة
يرى الإمام ابن القيم في “تهذيب سنن أبي داود” أن المعيار في دفن الميت ليلًا هو مدى تفويت الحقوق، فإذا كانت الصلاة على الميت متاحة، والإضاءة متوفرة، وحضور الناس ممكنًا، فلا بأس بالدفن ليلًا دون كراهة.
أما إذا كان الدفن في هذا الوقت يُفقد الميت بعض حقوقه الشرعية، كالصلاة عليه أو حسن التجهيز، فإن تأجيل الدفن حتى الصباح أولى وأفضل.
ما هو الأفضل؟
إذا لم يكن في تأخير الدفن إلى الصباح خطر على الميت (مثل التغير أو التحلل)، ووجد أمل في حضور عدد أكبر من المصلين، فالأفضل انتظار الصباح.
أما إذا وُجد من يصلي عليه في الليل، وكانت الوسائل متاحة، فلا مانع شرعًا من الدفن في الظلام.
والخلاصة الشرعية يمكن تصنيفها على النحو التالي:
- الدفن ليلًا جائز شرعًا إذا توفرت الإضاءة وحضر جمع من المصلين ولم يُفقد الميت أي حق من حقوقه.
- الأفضلية للنهار إن لم تكن هناك ضرورة أو إن كان يُتوقع تكثير عدد الحضور والصلاة.
- الضرورة تُقدَّر بقدرها، والهدف الأساسي هو حفظ كرامة الميت وتأدية حقوقه الشرعية.