
في ظل ما يشهده العالم من تحولات اقتصادية متسارعة، وما تواجهه الدول من تحديات في مجالات التنمية، والاستثمار، والعدالة الاجتماعية، لم يعد التشريع عملية فنية فقط، بل بات ضرورة استراتيجية تعتمد على فهم معمّق للتداخلات الاقتصادية والاجتماعية.
وباتت المجالس النيابية، وعلى رأسها مجلس الشيوخ، مطالبة بأداء أدوار تتجاوز الرقابة والتشريع، لتصل إلى صياغة الرؤى الوطنية الشاملة، خاصة حين يتعلق الأمر بالسياسات الاقتصادية العامة.
وهنا يُطرح سؤال جوهري: هل يحتاج عضو مجلس الشيوخ إلى خلفية اقتصادية؟ وهل يمكن له أن يؤدي دوره التشريعي والرقابي بفعالية دون إلمام بمبادئ الاقتصاد؟
هذا ما يناقشه المقال التالي، انطلاقًا من المهام الدستورية لمجلس الشيوخ، ووصولًا إلى تحليل العلاقة بين الفهم الاقتصادي وجودة القرارات السياسية والتشريعية.
الاقتصاد في قلب العمل التشريعي
يُعد مجلس الشيوخ هيئة استشارية ورقابية يُناط بها العديد من المهام، تتضمن إبداء الرأي في السياسات العامة للدولة، حيث يحيل رئيس مجلس الوزراء إلى المجلس هذه السياسات لمناقشتها وإبداء الرأي بشأنها.
كما يناقش مجلس الشيوخ مشروعات القوانين واللوائح التي تُحال إليه من الحكومة، ويُبدي ملاحظاته وتوصياته بشأنها.
ويمارس المجلس دورًا رقابيًا على أداء الحكومة من خلال مناقشة التقارير السنوية للوزارات والأجهزة الحكومية الأخرى، وتقديم الملاحظات والتوصيات بشأن مختلف القضايا التي تهم الدولة والمجتمع.
كما يلعب مجلس الشيوخ دورًا محوريًا في تطوير التشريعات، من خلال دراسة القوانين واللوائح القائمة واقتراح التعديلات اللازمة.
وتكمن المهمة الرئيسة للمجلس في إقرار الميزانية العامة للدولة، بما يضمن الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد المالية.

اختيار المرشح: مسؤولية الناخب
يُعد اختيار المرشح عملية بالغة الأهمية، حيث يجب على كل ناخب أن يسأل نفسه: من هو المرشح القادر على تمثيلي تحت قبة البرلمان؟ ومن هو الذي يستطيع التعبير عن آمالي وآلامي، ورغباتي ومطالبي؟
وهناك مجموعة من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المرشح للمجالس النيابية والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين:
صفات شخصية: وتشمل الصدق، الأمانة، والنزاهة، وهي ضرورية ليتمكن العضو من نقل متطلبات مواطني دائرته بأمانة.
وصفات معرفية: وتشمل الإلمام بالقوانين، ولا سيما قانون الخدمة المدنية، إلى جانب الإلمام بالمفاهيم والمبادئ الأساسية في السياسة العامة، مثل أنظمة الحكم والدساتير، وغيرها من المفاهيم المتعلقة بالشأن العام.
هل يجب أن يكون عضو مجلس الشيوخ ملمًّا بالاقتصاد؟
هنا سؤال جوهري يطرح نفسه بقوة: هل يجب أن يكون عضو مجلس الشيوخ ملمًّا بمبادئ الاقتصاد؟
في الواقع، الاقتصاد هو عصب الدولة الحديثة؛ فهو يؤثر بفاعلية في التعليم، والصحة، والتدريب، وبالتالي في العنصر البشري الذي يمثل حجر الزاوية في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
كما يُعد الاقتصاد عاملًا مؤثرًا في البنية التحتية، ومستويات المعيشة، والأمن، والعلاقات الخارجية، وغيرها من نواحي الحياة العامة والخاصة.
لذا، فإن معظم القرارات المتخذة داخل مجلس الشيوخ تكون لها أبعاد اقتصادية، إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن هنا، فإن إلمام عضو المجلس بمبادئ علم الاقتصاد يعد أمرًا حيويًا، إذ يساعده في اتخاذ قرارات مدروسة، من خلال تقييم آثارها على الميزانية العامة، والنمو الاقتصادي، والاستقرار المالي.
ومن الجوانب المهمة التي تتطلب فهمًا اقتصاديًا عميقًا، تحليل الميزانية العامة للدولة، بجانبيها: النفقات العامة، والإيرادات العامة، إلى جانب تقسيماتها وتداعياتها الاقتصادية.
يتطلب اقتراح علاج عجز الميزانية العامة معرفة دقيقة بمصادر التمويل الخمسة الرئيسة للإيرادات العامة، وفهم التأثيرات المتباينة لكل مصدر على المتغيرات الاقتصادية.
فمثلاً، الاقتراض قد يكون داخليًا من أفراد أو مؤسسات اقتصادية داخل الدولة، وتُسمى حينها "القروض العامة الداخلية"، وقد يكون خارجيًا من دول أو مؤسسات أجنبية، ويُسمى "القروض العامة الخارجية".
ولكل نوع من هذه القروض تأثيرات مختلفة، سواء عند الاقتراض أو عند السداد.
كما أن التوسع في الإنفاق العام له تداعيات اقتصادية تتعلق بمستوى الاستهلاك، والأسعار، وقيمة العملة.
ولا يخفى على أحد أن مصر تواجه جملة من التحديات الاقتصادية، من أبرزها العجز المستمر في ميزان المدفوعات.
وتلجأ الحكومة أحيانًا إلى حلول قصيرة الأجل لتخفيف حدة هذا العجز، مثل استخدام أذون الخزانة لتمويله.
وهنا يظهر دور عضو مجلس الشيوخ في فهم الآثار المترتبة على هذه السياسات، واقتراح حلول استراتيجية وجذرية، كزيادة الصادرات، أو تقليل الواردات، أو الجمع بين الخيارين.
كما ينبغي له التمييز بين السياسات المالية الانكماشية والتوسعية، والتعرف على مزايا وعيوب كل منهما في ضوء الأهداف الاقتصادية للدولة.

الرقابة على الأداء الاقتصادي والاستثماري
يساعد الإلمام بالمفاهيم الاقتصادية في مراقبة الأداء الاقتصادي للوحدات الحكومية، وتقييم مدى التزامها بتنفيذ خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
كما يُمكّن عضو المجلس من تقييم المشروعات الاستثمارية العامة، وتحليل مدى جدواها للاقتصاد القومي.
إلا أنه ليس من الضروري أن يكون عضو مجلس الشيوخ خبيرًا أو متخصصًا في علم الاقتصاد، فالمجلس يتكون من نخبة متنوعة من الكفاءات والخبرات في مجالات متعددة، لضمان التوازن وتحليل السياسات المختلفة.
لكن، من الضروري أن يمتلك العضو حدًّا أدنى من المعرفة الاقتصادية، يسمح له بتجاوز الأمية الاقتصادية، وأن يحرص على تطوير نفسه من خلال القراءة المستمرة والاطلاع.
رسالة إلى الناخب.. صوتك أمانة
وأخيرًا، دعني – عزيزي الناخب – أُهمس في أذنك بأن صوتك أمانة، فامنحه للمرشح الذي يتمتع بالصفات الشخصية والمعرفية، التي تؤهله ليكون عضوًا فاعلًا في المجلس، يساهم مع زملائه في نهضة وتقدم وطننا الحبيب، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة، التي تتكالب فيها التحديات، وتتربص الأزمات.
أ.د. هشام حنضل عبدالباقي الجعبيري
أستاذ الاقتصاد المتفرغ – كلية التجارة – جامعة المنصورة
Email: [[email protected]