
في كل عام، وتحديدًا في السابع والعشرين من يوليو، يضع العالم يده على أحد أخطر الأمراض الصامتة التي لا تطرق أبواب الأجساد إلا وقد تمكّنت منها: أمراض الكبد.
هذا العضو الخارق الذي يصمت طويلًا حتى يتهاوى فجأة، يصبح في هذا اليوم محورًا لحملة توعوية عالمية، تنبه إلى أن "أمراض الكبد لا تنتظر"، وتطالب العالم بأن يعرف الكبد جيدًا… لأن تجاهله قد يكون قاتلًا.
لكن خلف هذه الحملة الأممية، تقف قصة إنسانية ملهمة تستحق أن تُروى بصوتٍ عالٍ، ليس فقط في محافل الصحة، بل في كتب التاريخ الطبي. إنها قصة مصر، البلد الذي كان يوصف يومًا ما بـ"عاصمة التهاب الكبد C"، وتحول خلال عقد واحد فقط إلى أول دولة على الإطلاق تعلن رسمياً اقترابها من القضاء على الفيروس، في شهادة دولية من منظمة الصحة العالمية.
فكيف فعلتها مصر؟ وما هو حجم المأساة التي تحولت إلى معجزة؟ ولماذا يُعد ما حدث درسًا لكل دول العالم؟

عندما كانت مصر مرادفًا للفيروس
في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، كانت مصر تسجل أعلى معدلات إصابة بفيروس C في العالم. وصلت النسبة إلى ما يفوق 14.7% من السكان، أي أن قرابة 8 ملايين مصري كانوا يحملون هذا الفيروس بصمت وكانت بعض المحافظات، مثل المنيا وبني سويف وسوهاج، تسجل معدلات انتشار تخطت الـ30% في بعض المناطق، وفق دراسات نشرت في المجلات الطبية العالمية.
كان السبب كارثيًا بقدر ما كان صامتًا: ممارسات طبية غير آمنة تعود لعقود سابقة، أبرزها استخدام محاقن ملوثة خلال حملات مكافحة البلهارسيا في الستينيات والسبعينيات، ما تسبب في تفشي الوباء داخل الطبقات الأفقر والأقل وعيًا، وتحول الكبد المصري إلى ضحية لصمت طويل، وفقر مزمن، ونظام صحي منهك.
الانقلاب الصحي: عندما قررت الدولة أن تقول "كفى"
في عام 2014، بدأت مصر في رسم ملامح خطة وطنية جادة للقضاء على التهاب الكبد الفيروسي. تم إنشاء اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، وجاءت الخطوة الحاسمة في عام 2018 بإطلاق المبادرة الأشهر: 100 مليون صحة".
لم يكن مجرد شعار، ففي عام ونصف فقط، تم فحص أكثر من 60 مليون مصري، أي ما يعادل نحو 70% من السكان وتم اكتشاف الملايين من المصابين، وتوفير العلاج المجاني لهم بأدوية حديثة مثل "سوفالدي" و"داكلاتاسفير"، بأسعار تم التفاوض عليها عالميًا وإنتاجها محليًا، لتصل تكلفة العلاج الكامل إلى أقل من 50 دولارًا فقط للحالة الواحدة، بعدما كانت تتجاوز الآلاف.
وفي أكتوبر 2023، منحت منظمة الصحة العالمية مصر أول شهادة من نوعها في العالم تؤكد أنها على المسار الذهبي نحو القضاء على التهاب الكبد C، بعدما وصلت نسبة من تم تشخيصهم إلى 87%، ونسبة من تلقوا العلاج إلى 93%، وهي نسب لم تحققها أي دولة من قبل.
في عالم واجهت فيه عشرات الدول الفشل في التعامل مع أزماتها الصحية، برزت مصر كنموذج مختلف، استطاع أن يحوّل التحدي إلى إنجاز، والمرض إلى دافع للتغيير.
لكن لماذا نجحت مصر تحديدًا، بينما تعثّرت دول تمتلك موارد أكبر أو بنى تحتية أقوى؟ لفهم هذا التحوّل، لا بد من الغوص في تفاصيل المشهد المصري وتحليل مكوناته.
كل شيء بدأ بإرادة سياسية واضحة لا تقبل التردد، لم تُترك المعركة ضد المرض للمكاتب البيروقراطية أو المبادرات الموسمية، بل أصبحت أولوية رئاسية تُدار من قمة هرم السلطة. حين يُطلق رئيس الجمهورية بنفسه الحملات الصحية، فإن الرسالة تكون حاسمة: هذه ليست حملة علاجية، بل قضية أمن قومي لا مجال للفشل فيها.
لكن ما ميّز التجربة المصرية حقًا هو دمجها الذكي بين الفقر والمرض في خطة واحدة، لم تُعالج الدولة المرضى فقط، بل أعادت دمج المهمّشين في قلب المنظومة الصحية، وفي قرى نائية لطالما اعتادت الصمت، دخل الأطباء حاملين أجهزة الفحص المجاني، وأدوية كان المرضى يسمعون عنها فقط عبر شاشات التلفزيون.

آلاف المصريين تلقوا العلاج المجاني لأول مرة في حياتهم، ليس من باب الشفقة، بل بوصفهم شركاء في التنمية.
في خلفية هذا الجهد الضخم، كانت هناك بنية معلوماتية ذكية تعمل بصمت ودقة، قاعدة بيانات إلكترونية موحدة تمكّنت من تتبع المريض منذ لحظة التسجيل وحتى التعافي الكامل، كل فحص، كل زيارة، كل عبوة دواء صارت جزءًا من نظام رقمي متكامل، مكّن الدولة من اتخاذ قرارات دقيقة ومبنية على معلومات حقيقية، لا تخمينات.
أما الجانب الاقتصادي، فقد كان أحد مفاتيح النجاح الأكثر تأثيرًا، لم تنتظر مصر وصول الدواء من الخارج بتكاليف باهظة، بل سعت للحصول على التراخيص اللازمة، وبدأت في إنتاج الأدوية الجديدة محليًا، بهذه الخطوة، لم توفر فقط ملايين الدولارات، بل ضمنّت استمرار العلاج دون انقطاع، وبسعر يناسب قدرات الدولة والمواطن.
ولأن الوعي المجتمعي لا يُصنع داخل غرف الاجتماعات فقط، مدت الدولة يدها إلى المجتمع المدني، وفتحت المجال أمام النقابات والجامعات ووسائل الإعلام لتكون جزءًا من المعركة. ساهم هذا التكامل في إزالة وصمة المرض، ونشر ثقافة الوقاية، وخلق وعي صحي جديد يربط بين المواطن وحقه في العلاج.
هكذا نجحت مصر، لا بمعجزة، بل بإرادة سياسية واعية، ونموذج متكامل يربط بين التنمية والصحة والكرامة الإنسانية. نموذج يستحق أن يُدرّس، لا لأنه خالٍ من العثرات، بل لأنه واجه التحديات بروح الانتصار، لا التبرير.
السياق العالمي: لماذا لا تزال المشكلة قائمة عالميًا؟
ورغم هذا النجاح الملهم، فإن الصورة العالمية لا تزال قاتمة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية الصادرة في أبريل 2024 إلى أن هناك أكثر من 3500 وفاة يوميًا بسبب التهابات الكبد الفيروسية، ووجود أكثر من 254 مليون حالة إصابة مزمنة بفيروس B، وأكثر من 50 مليون حالة بفيروس C.
ورغم التقدم العلمي، إلا أن أكثر من 80% من المصابين لا يعلمون بإصابتهم، في حين أن نسبة من يتلقون العلاج فعليًا لا تتجاوز 20% عالميًا.
وحتى مع تراجع التهابات الكبد الفيروسية في مصر، إلا أن هناك تهديدًا جديدًا يلوح في الأفق: مرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD)، المرتبط بالسمنة ومرض السكري. تشير التوقعات إلى أن هذا النوع قد يصيب أكثر من 30% من سكان العالم بحلول 2030، وقد يصبح المسبب الأول لتليف الكبد وسرطان الكبد.

الدرس المصري للعالم
إنها واحدة من أعقد المعارك الصحية في تاريخها الحديث، وقفت مصر وجهاً لوجه أمام فيروس سي، ذاك القاتل الصامت الذي أنهك أجساد الملايين لسنوات وهدد الأمن الصحي والاجتماعي للبلاد.
لكن ما حدث لم يكن مجرد حملة فحص، بل ملحمة طبية حقيقية غيّرت الواقع واستحقت أن تُسجل كأحد أنجح النماذج في تاريخ الصحة العامة على مستوى العالم، وتكللت جهود وزارة الصحة والسكان بمجموعة من الإنجازات، لتضع أمام الجميع صورة واضحة لحجم ما تحقق وهي كالتالي:
أكثر من 63 مليون مواطن خضعوا للفحص ضمن أكبر حملة مسح طبي في تاريخ مصر، وهو ما يعكس رؤية استراتيجية تهدف للكشف المبكر والسيطرة على المرض قبل أن يتحول إلى أزمة مستعصية.
من بين هذا العدد، تم تشخيص نحو 5 ملايين إصابة بفيروس سي، وهو رقم يكشف حجم الانتشار الذي كان غائبًا عن أعين الإحصاءات لسنوات.
نجحت الدولة في علاج 4.5 مليون حالة، بنسبة شفاء قاربت 90 بالمئة، وهو ما يجعل التجربة المصرية من أبرز قصص النجاح العالمية في مجال مكافحة الفيروسات الكبدية.
لكن المعركة لم تقتصر على مواجهة الفيروس، بل امتدت لتشمل تداعياته الأكثر خطرًا، وفي مقدمتها سرطان الكبد، فقد تم علاج 60 ألف حالة مصابة بسرطان الكبد، وتم اكتشاف 120 حالة إصابة بالتليف الكبدي في مراحل مبكرة ضمن برنامج الترصد المبكر لسرطان الكبد، وهو ما يعكس نقلة نوعية في أساليب التشخيص والوقاية.
وعلى صعيد البنية التحتية الطبية، تم إنشاء 67 مركزًا متخصصًا لعلاج سرطان الكبد على مستوى الجمهورية، ما وفر خدمات طبية متقدمة للمواطنين في مختلف المحافظات، وضمن عدالة التوزيع في تقديم الرعاية الصحية.
هذه الجهود لم تكن مجرد استجابة طبية، بل جزءًا من تحول نوعي في فلسفة الدولة تجاه الصحة العامة. من التخطيط الاستراتيجي إلى التنفيذ الميداني، ومن التشخيص المبكر إلى العلاج الشامل، نجحت مصر في بناء نموذج متكامل يُحتذى به.
لقد تحوّلت قصة الكبد في مصر من مرآة للعجز إلى مرآة للأمل، ومن دولة موبوءة إلى دولة مرجعية، من حالة صحية حرجة إلى شهادة عالمية. هذه ليست مجرد حملة… إنها تجربة إنسانية وحضارية يجب أن تُدرَّس.
بسمة إبراهيم