لا يمر عام دراسي في مصر دون أن يعيش ملايين الأسر والطلاب تحت وطأة قلق مزمن اسمه الثانوية العامة، يتوج بلحظة انفجار وجداني عند ظهور النتيجة، ثم تبدأ موجة جديدة من الألم النفسي والاجتماعي لا تقل حدة، اسمها: مكتب التنسيق.
ورغم الوعود المتكررة بإصلاح منظومة التعليم وتحديث آليات التقييم، إلا أن الواقع ما زال يفرض سؤالًا مريرًا: لماذا لا تزال أحلام الطلاب تُقاس برقْم، لا بمَلَكَة؟
ولماذا يُختزل مصير آلاف الشبان والشابات في شريحة ضيقة من المجموعات والدرجات والمقاعد الجامعية؟
نظام التنسيق.. وراثة الظلم في ثوب قانوني
بدأ نظام التنسيق المصري منذ عقود، وظل قائمًا على معيار وحيد تقريبًا: المجموع التراكمي للثانوية العامة.
ورغم كل الانتقادات التي وُجّهت إليه، لم تتغير فلسفته الأساسية، بل تفاقمت سلبياته مع ازدياد أعداد الطلاب وتراجع جودة التعليم في بعض المراحل الدراسية.
تكمن الإشكالية في أن التنسيق لا يقيس الميول الحقيقية للطالب، ولا قدراته الفعلية، بل يختزل مسيرته الدراسية كلها في درجات امتحان واحد، في ظروف نفسية مضغوطة، وغالبًا ما تكون غير عادلة أو تمثل مجرد مهارات حِفظ مؤقت، لا قدرات عقلية مستديمة.
الطب والهندسة.. لا تزال الحلم الزائف
لا تزال قطاعات واسعة من المجتمع المصري تحصر النجاح في دخول كليات القمة، وهي مسمّيات تُغذّيها الثقافة السائدة ونظام التنسيق ذاته، الذي يربط بين "ارتفاع المجموع" و"رفعة الكلية"، رغم أن الواقع المهني بعد التخرج لا يؤيد هذا الربط.
فكم من طبيب يعاني بطالة جزئية، وكم من مهندس لا يجد فرصة عمل، وكم من خريج إعلام أو آداب صنع مجده الشخصي بجهده الذاتي خارج الإطار التقليدي؟
ضحايا بالجملة.. وأحلام مؤجلة
ضحايا هذا النظام ليسوا فقط من أصحاب المجاميع الضعيفة أو المتوسطة، بل حتى أصحاب المجاميع العليا الذين لا تُتاح لهم الفرصة للالتحاق بما يناسب شغفهم أو إمكاناتهم.
فكم من طالب نابغ في الأدب والفنون أجبره المجموع على دراسة القانون؟ وكم من طالب يحلم بالبحث العلمي أُلحق بكليات تجارية لا تلبي طموحه؟
أما الكارثة الأكبر، فهي في التمييز الجغرافي، أو الفجوة الهائلة بين الكليات النظرية والتطبيقية في عدد المقاعد، أو في تفاوت جودة التعليم من جامعة إلى أخرى، دون أن يكون للطالب يد في الأمر.
نحو بدائل عادلة ومنصفة لمكاتب التنسيق
لقد بات من الضروري إعادة النظر جذريًا في فلسفة نظام التنسيق، واعتماد مسارات أكثر إنصافًا، مثل:
- اختبارات قدرات حقيقية تقيس مهارات الطالب في التخصص المستهدف.
- إعادة تفعيل المقابلات الشخصية أو الملفات التراكمية (Portfolio) لقياس مدى ملاءمة الطالب للتخصص.
- تنمية التعليم الفني والتطبيقي وتغيير النظرة المجتمعية تجاهه.
- توزيع المقاعد وفقًا لمعايير الجودة والميول، لا الأرقام المجردة.
- إدماج المدارس الدولية والتكنولوجية بنظام واضح داخل المنظومة.
وأخيراً، لا أملك إلا أن أوجه مجموعة الرسائل إلى الأسرة المصرية والمسؤولين والمعلمين في آن واحد:
أيتها الأسرة: لا تُعلقي مجد أولادك على رقم أو شهادة، فالحياة أوسع من التنسيق، والموهبة لا تُحبس في جدول كليات.
إلى وزير التربية والتعليم والتعليم العالي: إن مستقبل الوطن يبدأ من عدالة التعليم، فلا تبنوا أحلام الشباب على أنقاض نظام لا يرى إلا الدرجات.
أما المعلم فأقول له: علم الطلاب أن التفوق ليس شهادة فقط، بل شخصية وسعي ومعرفة.
هبة صالح