الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

في مشهد يعيد إلى الأذهان صور الطوفان والغرق والهلاك الجماعي، اجتاحت فيضانات تكساس مئات المدن الأمريكية في واحدة من أسوأ الفيضانات في تاريخها الحديث، مخلّفةً وراءها أكثر من 109 قتلى وعشرات المفقودين والمشردين، وسط دمارٍ واسع النطاق، وذهول عالمي. 
ما يحدث في الولاية المنكوبة لم تكن مجرد كارثة طبيعية فيزيائية، بل لحظة كونية استثنائية تحمل من الدلالات ما يفوق حدود المأساة، وبينما تتابع وسائل الإعلام المشاهد من الجو والبر، تتردّد في قلوب المؤمنين تساؤلات وجودية: هل ما يحدث غضب من الله عز وجل على أمريكا بسبب ما تفعله من جرائم قتل وتشريد في غزة واليمن وليبيا والعراق وإيران؟ 
وهل ترتبط الكوارث الطبيعية بذنوب البشر وجرائم الدول؟ وما موقف الإسلام من هذه الظواهر، وما الحكمة الإلهية من ورائها؟
هذه الأسئلة ليست جديدة، لكنها تتجدد كلما هزّت الأرض كيان الإنسان، وكلما ظهر عجز القوة المادية أمام قدر الله عز وجل.

هل الكوارث الطبيعية غضب من الله؟

في العقيدة الإسلامية، لا تقع الكوارث عبثًا، ولا تنزل البلايا فجأة بلا سبب، بل ترتبط بسُنن إلهية جليلة لا تتبدّل، حيث يقول الله تعالى: «وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا» (الإسراء: 59).

وقال سبحانه: «فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا» (العنكبوت: 40).

والظاهر من هذه الآيات أن الكوارث الكبرى قد تكون عقوبة إلهية على الطغيان والفساد، أو رسالة تحذير من الله للبشر ليتراجعوا عن ظلمهم. 

والفيضان في ذاته قد يكون "آية كونية" تحمل في طياتها رسالة ربانية، تنذر الطغاة، وتُعيد توازن البشرية حين تطغى المادة وتغيب القيم.

وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الذنوب والكوارث، كما جاء في حديث ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: "أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:

لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ".

وهذا الحديث الشريف يُظهر صلة مباشرة بين الفساد، سواء المالي أو الأخلاقي أو السياسي، وبين شحّ المطر، وجفاف الطبيعة، وانتقام الأرض من ساكنيها.

هل كارثة فيضان تكساس غضب من الله على أمريكا؟

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل يمكن أن يكون ما حدث في تكساس انعكاسًا إلهيًا لظلمٍ تاريخي تراكم وتغوّل؟ وهل باتت يد العدالة الربانية تتحرك حين عجزت العدالة الدولية عن محاسبة الجناة؟

وهنا لابد وأن نميز بين الرؤى العلمية والدينية في تفسير أسباب الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل والبراكين.
فمن جهة، يفسّر العلماء الفيضانات بأنها ناتجة عن اضطرابات مناخية، وتغيرات بيئية متسارعة مثل الاحتباس الحراري، وذوبان الجليد القطبي، وارتفاع منسوب البحار.

ولكن هناك من يطرح تفسرياً مختلفاً من منظور ديني، فيرى في هذه الكوارث نوعًا من رسائل السماء إلى أهل الأرض، ولا تعارض بين الأسباب الطبيعية والحكمة الإلهية، بل قد تكون الأسباب نفسها جزءًا من القدَر.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي بقول الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": "الرب سبحانه قد يجعل لبعض الذنوب عقوبات في الدنيا، في القلوب، والأبدان، والأموال، والأولاد، والمجتمع كله، بما لا يخطر في حسبان، ولا يُكشف إلا لمن تدبّر وتفكر وتبصّر."

وفي هذا السياق، تُفهم الكوارث على أنها قد تكون إنذارًا أو تأديبًا إلهيًا إذا شاع الظلم والفساد في الأرض، واستُبيحت الحقوق، وقُهر المظلومين، يقول تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة» (الأنفال: 25)،
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كثر الخبث، عمّهم الله بالعذاب" (رواه البخاري).

لكن هذا التفسير يطرح سؤالًا مهمًا: إذا كانت الكارثة غضبًا من الله، فلماذا يُهلك فيها الأبرياء؟

تُجيب النصوص الإسلامية بأن البلاء حين يعم، قد يشمل الصالحين ضمن سياق الابتلاء والتمحيص، لا العقوبة، كما يؤكد الإسلام أن من يموتون غرقًا أو في الهدم يُبعثون شهداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله" (رواه البخاري).

وفي النهاية، لا يمكن إغفال أي من التفسيرين، فالرؤية العلمية تفسر "الكيفية"، بينما الرؤية الإيمانية تتأمل "الغاية والمعنى" وبينهما مساحة للتكامل لا للتنافر، حيث تبقى الكارثة في النهاية دعوة للتأمل والمراجعة، سواء في علاقتنا بالبيئة أو في علاقتنا بالله.

إن على كل مسلم أن ينظر إلى ما حدث في تكساس بعين الاعتبار، لا الشماتة، وبقلب الوجل لا الفرح فالله تعالى لا يفرح بإهلاك عباده، وإنما يُنذرهم ليتوبوا. قال تعالى: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (الروم: 41).

فالكوارث الطبيعية إنذار لكل أمة تتجاوز حدود الله، وتقتل الأبرياء، وتستبيح الحرمات، وتدّعي الطهارة وهي تنشر الفساد. 
وهي في الوقت ذاته دعوة للمؤمنين أن يعودوا إلى الله، وأن يجددوا إيمانهم، وأن يوقنوا أن الدنيا زائلة، وأن سلطان البشر ينهار في لحظة أمام جنود الماء والريح والنار.

والخلاصة أن الفيضانات، الزلازل، الأعاصير، كلها رسائل من الله إلى بني آدم، مفادها أن للكون ربًا لا يغفل، وأن في كل قطرة ماءٍ تهطل حكمة، وفي كل جدارٍ ينهار عِظة، وفي كل نَفَسٍ يُسحب من تحت الأنقاض تذكرة.

إن أمريكا، بكل جبروتها، لم تستطع أن تمنع مياه السماء وهذه هي الحقيقة التي يجب أن تعيد رسم وعي الأمة: أن القوة لا تُنقذ أصحابها، إن كانت مجردة من العدل، وأن الأمم التي تسكت على الظلم لن تأمن العقوبة.

د. أماني اليثي

داعية إسلامية

تم نسخ الرابط