الخميس 03 يوليو 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

هناك أناس يحملون بداخلهم آلامًا، لا يستطيعون البوح بها لمن يخالطونهم؛ ربما خشية ضياع هيبة، فالبوح تعرٍّ، وربما خشية إساءة فهم، فالناس في أفهامهم متفاوتون، وربما خوفًا من اللامبالاة بالمشاعر، فالناس في تقديرهم للمشاعر مختلفون، وربما تلذذًا بترداد الآلام بين جنباتهم، وهؤلاء نادرون.

وفي ذلك قال الشاعر:

إنّ الجراحَ إذَا خبّأتها شُفيتْ       فَاكْتُمْ جِرَاحَكَ لا تُخْبِرْ بِهَا أَحَدَا

كَمْ مِنْ كَلِيْمٍ شَكَا للنَّاسِ لَوْعَتَهُ      فَزَادَهُ النَّاسُ وَجْدًا فَوْقَ مَا وَجَدَا

وقد قابلت بعضًا من هؤلاء في لحظة عابرة، لا تجمعنا طول علاقة، ولا رابطة صداقة، ولا حتى إلف رفقةٍ، هي فقط لحظة عابرة، غلبتهم فيها رغبتهم في البوح، وثار بركان آلامهم، وتضاغطت حمم همومهم، فتداعت أمامها مناعة كتمانهم، فباحوا، وكانوا بين يديك كمن يتمدد على كرسي الاسترخاء بين يدي طبيب، ولسان حالهم ينشد قول الشاعر:

ولا بُدّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مروءةٍ       يُواسيكَ أو يُسليكَ أو يتوجعُ!

ومن النماذج التي أتذكرها:

-رجل جلس جانبي في وليمةٍ، في هيئة شيخ صالح، ذو جلباب أبيض ووجه وضّاء، وعمامة لفّاء، فبدأ السؤال استئناسًا على الطعام، ما اسم حضرتك؟ فأجبت وسألت، ثم انهمر في البوح: لم تكن لي رغبةٌ في القدوم لهذه الوليمة؛ لأني أمر بلحظة أليمة، لكن الشيخ فلان أصرَّ على أن يسحبني هنا؛ فقد توفيت زوجتي، وتركتني لوَحدتي، ولا طاقة لي على دخول البيت، وكلما دخلته انثنيت، وركبت سيارتي، وهِمت غير مدركٍ لوجهتي، وألتفت يمنةً فأجد مقعدها بجانبي فارغًا، ولم يكُ منها من قبل شاغرًا، فقد كانت ملَّاحتي، ولم تعد لي رغبةٌ في العمل.

 ثم استرسل يحكي لي عن مآثرها، وكيف تعرف إليها، وكيف كانت زيجتهم يسيرة الكلفة عظيمة الأُلفة، وكيف كانت رحلتها المَرَضية ووفاتها على حالة إيمانية مُرْضية، وأنا لم أزد عن كلام التصبير، والتبصير بحِكَم القدير.

-وامرأة جلست بجانبي في وسيلة مواصلات مكتظَّة، كبيرة السن من القواعد، غير أن عزمها غير قاعد، نحيفة الجسد، يحيط بمعصمها وشم أخضر، فقالت لي من أين؟ فقلت لها ووصفت.

 ففوجئت بها تحكي عن قصة أبناء ابنتها المتوفاة الذين آوتهم وأجنحتُهم مهيضة، وكيف كان نكران أهل أبيهم لجهودها، وتركها تجاهد لهم وحدها، وكيف هي الآن سعيدة بآثار غرسها، ونتاج جهدها، وكيف صاروا ملء العين، ثم ودعتني وحملت قفتها ونزلت، تلملم جلبابها المزركش بورود صغيرة خضراء وكرانيش، وتجرجر سنين عمرها بعزيمة. 

- ورجل جلس بجانبي في قطار، يحمل حافظة أوراق طبية، وقبضة يده محنية على عصا تسيار ذات رأس فضية، ذو وجه بض عليه آثار النعمة القديمة، ولكن غطَّته صُفرة مرض، فأخذ يحكي صولاته وجولاته مع مزماره في فرقته الموسيقية، وكيف عاش أيامًا بهية، وليالي جَنِيّة، قبل أن يغزوه فيرس (سي)، وها هو الحمد لله جاءته الموافقة على العلاج بعقار (سوفالدي).

 وأخذ ينشد بصوت متهدِّج بعضًا مما غنّى في لياليه، وهرب معي من واقعه للعيش في ماضيه، فترنمت مع روحه الصدَّاحة لا مع حنجرته المشدوخة، وعدّد لي الأفراح الملاح التي أحياها، والبلاد التي أشرق بمزماره مُحيّاها.

- وامرأة نصَفٌ دخلت علينا وأنا أتحدث مع صيدلي في العتبة، طالبًا علاجًا من ضربة الشمس لراسي، عقابا لي أنْ أطلتُ وطء شعاعها بمداسي، فدخلت المرأة بملابسها التي لم تخالط ماءً منذ سنين، وبشعرِها الذي تخاصمت خِصالُه خصامَ مبين، وبقدمِها التي تطأ بها الأرض بغير حائل، وبحقيبتها التي تحمل فيها غير شيء لكنه عندها ثمين، تحتضنه حضنَ ضنين. 

 ورغم رثاثة الحال تنبئك الهيئة أنها عاشت عمرًا غير قصير في رفاهية ربات الحِجَال، فأخذت القلم من أمامنا بين أناملها بخفَّة، وكتبت على الورق أمامنا محتفَّة، بخط يدل على عقل تشبَّع من العلم والتعليم: "ابنك في المستشفى، في الثالث، غرفة ٢٠٤، بحالة حرجة."، لم تخطئ في همزة ولا في نقطة، ثم ألقت القلم على الورقة، وخرجت ولم تلتفت، ونحن نتبعها ببصرنا مشدوهين، من جودة الخط، ومن الأسلوب، ونتساءل: أأم عاقلة ثكلى، أم من عقلاء المجانين؟!

أسأل الله أن يكون بوحُهم أراحَهم، وخفّف آلامهم!

د. محمد علي عطا

[email protected]

تم نسخ الرابط