إيقاد الأذهان، يتجلى الفرق الجوهري بين متعلمٍ يُحصِّل المعرفة عبر ممارسةٍ مقصودةٍ أو عفويةٍ قائمةٍ على البحث والتجريب، بما يتضمنه من مراحل منظمة وأخرى غير متوقعة، وبين متعلمٍ تُقدَّم له المعلومة جاهزةً دون جهدٍ أو معاناة؛ حيث يتبدى التباين بين من يباشر الفعل فيُبدع، ومن يكتفي بالتلقي فيستهلك؛ فالأول تتشكل أنماط سلوكه إيجابيًا بفضل ما راكمه من خبراتٍ ومعارف، بينما الثاني يظل حبيسَ ذاكرةٍ مؤقتةٍ لا تُفضي إلى تغييرٍ في السلوك أو الأداء.
إن ما يستقر في الذاكرة لا بد أن يرتبط بممارسةٍ تُفضي إلى أثرٍ مرغوبٍ فيه؛ فالخبرة التعليمية المقصودة تتدرج في ثلاثة مستوياتٍ يتصدرها تحصيل المعرفة، يعقبه المران أو ما يُطلق عليه التطبيق، ثم يليه ازدهار الوجداني المأمول؛ فتنبثق الرغبة في مواصلة اكتساب الخبرات، ويتعاظم تبعًا لذلك حب الاستطلاع العلمي، أو ما يُعرف بشغف التعلم.
ينبغي التمييز بين حفظٍ يسبقه فهمٌ ويتلوه تطبيق، وبين حقن للأذهان لا يُفضي إلى ثمرةٍ مرجوة؛ فحين يستوعب المتعلم قانونًا ثم يُحسن توظيفه في معالجة مسائل جديدة بمعطياتٍ متغايرة، يتحقق الهدف التربوي المنشود، أما إذا اقتصر على استظهار خطوات حلٍّ لمثالٍ بعينه دون وعيٍ بجوهر القانون، فإنه يعجز عن التعامل مع أي تغيرٍ في معطيات المسألة؛ إذ يغيب عنه حينذاك التفكير الخلّاق الذي يهيئ لسلامة التطبيق.
في المؤسسة التعليمية يتطلب التخلي عن بعض الممارسات، التي تُشوِّه جوهر التعليم الحقيقي؛ فحين نُقدِّم المعرفة بغرض استظهارها عن ظهر قلب، متجاوزين مستوى الفهم بما يحمله من استيعابٍ واستنتاجٍ وقدرةٍ على الترجمة، وغافلين ما يقتضيه من تطبيقٍ وتحليلٍ يقود إلى آفاق الابتكار، فإننا نحيد عن الغاية الأصيلة للتعلم في جوهره الذي نصبو إليه.
ثمة عائقٌ يتوجب التصدي له، يتمثل في منظومة الاختبارات، التي تُجرى دوريًا على امتداد العام الدراسي، أو في نهايات الفصول، أو عند استحقاق الشهادات النهائية؛ إذ ينبغي أن تُقاس من خلالها وظيفية المعرفة، لا مجرد مستويات تذكرها؛ فالقيمة الحقيقية للتقويم مرهونة ببقاء أثر التعلم الذي يسهم في إثراء رصيد الخبرات النوعية ويصقل مهارات المتعلم ووجدانياته بصورةٍ تراكمية، تُسهم في تشكيل مواطنٍ فاعلٍ يمتلك مقومات القرن الحادي والعشرين متى أُحسن التخطيط لذلك بعناية.
ويمكن الحد من ممارسات التلقين، التي تُحقن أذهان أبنائنا داخل مؤسساتنا التعليمية، إذا ما خُفِّفت اعتماديته على التدريس التقليدي، وأُتيح له مجال الممارسة الوظيفية؛ من خلال مهامٍ منظمةٍ ومخططٍ لها مسبقًا من قبل المعلم، عبر أنشطةٍ تعليميةٍ تستهدف تحقيق غايات التعلم المنشودة؛ إذ لا ينبغي أن تُقدَّم خبرات التعلم في صورتها الجاهزة، سواء أكانت بسيطة، أم مركبة، كما لا يجوز حصرها في مصدرٍ معرفيٍ واحد، في ظل تعدد وتنوع منابع المعرفة، التي يفضي الاطلاع المتسع عليها إلى صقل الخبرة، وإثراء محتواها في مجالاتها المختلفة.
إن استراتيجيات التدريس الفاعلة التي تكبح نزعة التلقين وحقن الأذهان، تستند إلى فلسفة محورية تتمثل في المشاركة والشراكة والجهد الواعي المنظم، الذي ينهض به المتعلم داخل البيئة التعليمية؛ فقد تلاشت صورة الأدوار التقليدية بين المعلم والمتعلم، ليغدو المتعلم هو المحرك الأساس للعملية التعليمية، بما ينجزه من مهامٍ وتكليفاتٍ، بينما يتخذ المعلم دور الموجه والمرشد، يقدم الدعم والتقويم، ويعزز محاولات التعلم، ويحفز المتعلم على الارتقاء بجهوده، نحو أفقٍ أوسع من النمو المتنوع، الذي يشمل في طياته الجانب المعرفي والمهاري والوجداني.
إن بيئة التلقين وحقن الأذهان، تنتزع من أبنائنا حرية التعلم، وتُقيِّد مرونتهم، وتدفعهم قسرًا بعيدًا عن مسارات الابتكار التعليمي، فتُضعف شغفهم بالاكتشاف، وتُثقل كاهلهم بأعباء حفظ معارف مجردة محدودة الجدوى التطبيقية، أو واهية الفاعلية، كما أنها تُهمل تفعيل لغة الحوار التي تساعد في بناء وعيٍ راسخٍ، يستند إلى بنى معرفية سليمة، الأمر الذي يزيد من احتمالات شيوع أنماط الفهم المغلوط؛ نتيجةً لتلك الممارسات التعليمية القاصرة في مجملها.
لنا أن نعظم من قيمة التطبيق؛ لما نمنحه لأبنائنا من معارف؛ كي تتحول الخبرة التعليمية إلى مردودٍ حيٍّ ومغزى أصيل ومعنى عميق في وجدانهم، فينزعون بشغفٍ إلى ممارسة ما تعلموه في ميادين الحياة والعمل، ويترسخ فيهم حب العلم ومجالاته المثمرة، ويستشعرون فضل من غرس أصوله، ويقدسون صروحَه، ويجلّون القائمين على رعايتها؛ فهي قيم رفيعة وسلوكيات قويمة، تظل ضرورةً لا مراء في أثرها وبقائها.
علينا أن نعيد النظر في ممارساتنا التقويمية، التي تقتصر على قياس الجوانب المعرفية في بعض مستوياتها؛ لنغدو أكثر قناعة بالتخلي عن فكرة حقن الأذهان، ونمضي بوعيٍ نحو ترسيخ ممارسات تُعنى بصقل الأفهام وتوسيع آفاقها عبر بوابة إيقاد الأذهان... ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
__________________________
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر