بث مباشر، صلاة الجمعة اليوم 12 سبتمبر 2025، بعنوان " وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر"

حددت وزارة الأوقاف المصرية موضوع خطبة صلاة الجمعة اليوم 12 سبتمبر 2025، وتأتي بعنوان " وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر"، وفي السطور التالية نستعرض لكم نص الخطبة.
بث مباشر لصلاة الجمعة اليوم 12 سبتمبر 2025
تذاع صلاة الجمعة اليوم 12 سبتمبر 2025 بعنوان " وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر" من مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها بالقاهرة .
نص خطبة صلاة الجمعة اليوم
"الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الحَيَاةَ مَجَالًا لِلاِخْتِبَارِ، وَأَقَامَ الدُّنْيَا مَسْرَحًا لِغَرْسِ الآثَارِ، وَعَدَلَ بِحُكْمِهِ فَجَعَلَ النَّاسَ بَعْضَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى بَعْضٍ، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]. نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِنْ كُلِّ زَلَّةٍ وَخَطَأٍ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَرْجُو بِهَا النَّجَاةَ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ وَتَضِيقُ الصُّدُورُ.
وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ تَرَكَ أَثَرًا، وَأَعْظَمُ مَنْ أَوْرَثَ ذِكْرًا، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَكَشَفَ اللَّهُ بِهِ الغُمَّةَ، فَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.

أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا أَحِبَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، مَوْعِظَتُنَا اليَوْمَ تَدُورُ حَوْلَ مَعْنَى جَلِيلٍ وَمَقَامٍ عَظِيمٍ، أَلَا وَهُوَ:
«وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الأَثَرُ”
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَعْنَى الأَثَرِ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ
أَيُّهَا الأَفَاضِلُ، الأَثَرُ هُوَ تِلْكَ البَصْمَةُ الَّتِي يَتْرُكُهَا الإِنْسَانُ بَعْدَ رَحِيلِهِ، فَيُذْكَرُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَبْقَى لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12].
قالَ ابنُ كثيرٍ: “نَكْتُبْ أَعْمَالَهُمْ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَآثَارَهُمْ الَّتِي أَثَّرُوهَا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ”، ج6، ص565).
وقالَ السعديُّ: “فَكُلُّ خَيْرٍ عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، بِسَبَبِ عِلْمِ العَبْدِ وَتَعْلِيمِهِ وَنَصْحِهِ، أَوْ أَمْرِهِ بِالمَعْرُوفِ، أَوْ نَهْيِهِ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ عِلْمٍ أَوْدَعَهُ عِنْدَ المُتَعَلِّمِينَ، أَوْ فِي كُتُبٍ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَمِلَ خَيْرًا، مِنْ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إِحْسَانٍ، فَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ عَمِلَ مَسْجِدًا، أَوْ مَحَلًّا مِنَ المَحَالِّ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا النَّاسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا مِنْ آثَارِهِ الَّتِي تُكْتَبُ لَهُ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الشَّرِّ” (تفسير السعدي، ص689).
وجاءَ في التفسيرِ الوسيطِ لمحمد سيد طنطاوي: “نُسَجِّلُ لَهُمْ آثَارَهُمْ الَّتِي تَرَكُوهَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَالِحَةً كَعِلْمٍ نَافِعٍ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ … أَمْ غَيْرَ صَالِحَةٍ كَدَارٍ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَكَرَأْيٍ مِنَ الآرَاءِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اتَّبَعَهَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَسَنُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ”. (التفسير الوسيط، ج12، ص18).
أيُّها الأحبَّةُ، هذا هو المعنى العظيمُ الَّذي تُبيِّنُه الآيةُ، أنَّ حياةَ الإنسانِ لا تنقطعُ بالموتِ، بل يبقَى صدى أعمالِه يتردَّدُ في الدنيا، ويتجدَّدُ ثوابُه أو وِزرُه في الآخرةِ. قال ﷺ “مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا”. مسلم (1017) وابن ماجه (213) واللفظ له.
وقد قالَ بعضُ الحكماءِ: “ليسَ أحدٌ يموتُ فيبقى ذكرُه، إلا بقدرِ ما تركَ من أثرٍ؛ فإن كانَ خيرًا دُعِيَ له، وإن كانَ شرًّا ذُمَّ وعيبَ وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ 1631).
وقال الإمام النووي: “مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ فَتَأَمَّلُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – كَيْفَ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الأَثَرَ الطَّيِّبَ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ: الصَّدَقَةَ الجَارِيَةَ، وَالعِلْمَ النَّافِعَ، وَالوَلَدَ الصَّالِحَ، وَكُلُّهَا أَبْوَابٌ لَا تَنْقَطِعُ مَا دَامَتِ الأُمَّةُ تَنْتَفِعُ بِهَا”. شرح النووي ج11، ص85.
وَمِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قَالَ: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84]، أَيْ اجْعَلْ لِي ذِكْرًا حَسَنًا وَأَثَرًا بَاقِيًا بَيْنَ الأُمَمِ. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَكُلُّ أَدْيَانِ السَّمَاءِ تُعَظِّمُهُ وَتَذْكُرُهُ.
وَالأَثَرُ – يَا أَحِبَّةَ – لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى العِبَادَاتِ فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يُخَلِّفُهُ الإِنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي بَيْتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ. فَالأَبُ الَّذِي يُرَبِّي أَوْلَادَهُ عَلَى القُرْآنِ وَالأُمُّ الَّتِي تَغْرِسُ فِي قَلْبِ بِنْتِهَا العَفَافَ، هَؤُلَاءِ قَدْ تَرَكُوا أَثَرًا لَا يَنْقَطِعُ مَدَى الدَّهْرِ. وَمَا الأُسَرُ إِلَّا مَصَانِعُ الآثَارِ، فَبِهَا يُصْنَعُ الأَجْيَالُ، وَمِنْهَا تَنْبُثِقُ أَعْمَاقُ الحَضَارَاتِ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: نَمَاذِجُ مِنْ أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ والسلفِ
قال تَعَالَى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ الدخان 29، فَهَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: “نَعَمْ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ إِلَّا لَهُ بَابٌ فِي السَّمَاءِ، مِنْهُ يَنْزِلُ رِزْقُهُ، وَفِيهِ يَصْعَدُ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَأُغْلِقَ بَابُهُ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ، وَيَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا فَقَدَهُ مُصَلَّاهُ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا، بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الأَرْضِ آثَارٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْهُمْ خَيْرٌ، قَالَ: فَلَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ” تفسير الطبري، جامع البيان (ج22/ص29)، تحقيق: أحمد شاكر، ط. هجر. وراجع أيضا: تفسير ابن كثير (ج7/ص246)، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ج16/ص117).
وقال الحسن البصري: “إنَّ المؤمنَ إذا ماتَ بكى عليه مُصَلّاهُ من الأرضِ ومصعدُ عملِه من السماءِ أربعين صباحًا” حلية الأولياء (2/131). وقال أيضا: “ما يزالُ المؤمنُ يعملُ الخيرَ ويُحدِثُ الذِّكرَ حتى تَنعاه بقاعُ الأرضِ ومصاعِدُ عملِه من السماءِ”. الزهد الكبير، البيهقي (ص362)، تحقيق: عامر أحمد حيدر.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللَّهِ، إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَرَى الأَثَرَ البَاقِي فِي أَبْهَى صُوَرِهِ، فَلَا نَجِدُ أَعْظَمَ مِنْ أَثَرِ سَيِّدِنَا وَحَبِيبِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَدْ تَرَكَ فِي الْقُلُوبِ إِيمَانًا، وَفِي الْعُقُولِ هُدًى، وَفِي الدُّنْيَا أُمَّةً مَجِيدَةً.
مِنْ أَثَرِهِ ﷺ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْعَرَبَ – وَهُمْ قَبَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ – فَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَحْمِلُ رِسَالَةَ السَّمَاءِ، وَأَنَارَ بِهِ اللَّهُ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ رَبُّنَا: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
فَانْظُرُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – إِلَى أَثَرِهِ ﷺ فِي التَّرْبِيَةِ وَالإِصْلَاحِ.
بَنَى أُمَّةً مِنْ رُعَاةِ الغَنَمِ فَأَصْبَحُوا قَادَةَ الدُّوَلِ. أَخْرَجَ أَقْوَامًا مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ.
أَثَّرَ فِي أَفْئِدَةِ أَصْحَابِهِ حَتَّى كَانُوا يَتَسَابَقُونَ إِلَى الطَّاعَةِ.
وَلَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ ﷺ مَحْصُورًا فِي زَمَانِهِ، بَلْ هُوَ سَارٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَنْطِقُ بِالشَّهَادَةِ، وَيُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَحُجُّ وَيَزَكِّي، فَذَلِكَ مِنْ أَثَرِهِ الْمُبَارَكِ ﷺ.
ثُمَّ تَأَمَّلُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – أَثَرَ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، فَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144]، ثَبَتَتْ بِذَلِكَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَزَالَتِ الْفِتْنَةُ. كَانَ ذَلِكَ أَثَرًا بَاقِيًا يُذَكِّرُ الْأُمَّةَ أَنَّ الدِّينَ بَاقٍ وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ ﷺ.
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ أَثَرًا فِي الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ، حَتَّى قَالُوا: “عَدَلَ عُمَرُ فَنَامَ”، وَصَارَ مِثَالًا لِكُلِّ من يَبْتَغِي رِضَا اللَّهِ. وَكَانَ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْحَقِّ لَوْ أَنَّ جَمَلًا هَلَكَ ضَيَاعًا بِشَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ”. الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2، ص433، وقال: : «لَوْ هَلَكَ حَمْلٌ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ ضَيَاعًا بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ خَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ”. المصنف لابن أبي شيبة ج7، ص99 رقم 14486. وابن جرير في التاريخ 2/566.
هَذَا هُوَ الأَثَرُ الَّذِي يَجْعَلُ رَجُلًا وَاحِدًا مِيزَانَ عَدْلٍ فِي التَّارِيخِ كُلِّهِ.
وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ أَثَرًا بَاقِيًا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، فَلَوْلَاهُ بَعْدَ فَضْلِ اللَّهِ، لَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي القِرَاءَاتِ. فَكُلُّ مُصْحَفٍ يُتْلَى فِي أَرْجَاءِ الْعَالَمِ هُوَ أَثَرٌ عُثْمَانِيٌّ مُبَارَكٌ.
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ أَثَرًا فِي الْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ، فَصَارَ بَابَ الْعِلْمِ، وَمِضْرَابَ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَمِنْ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ، تَأَمَّلُوا أَثَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ نَقَلَتْ لِلأُمَّةِ عِلْمًا وَسُنَّةً وَفِقْهًا، حَتَّى صَارَتْ مَرْجِعًا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ. وَهَذَا أَثَرٌ بَاقٍ يَتَكَرَّرُ مَعَ كُلِّ فَتْوَى تُنْسَبُ إِلَيْهَا وَكُلِّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْهَا.
وَتَأَمَّلُوا أَثَرَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ شَابٌّ، حِينَ قَادَ جَيْشًا فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّبَابَ قَادِرُونَ عَلَى تَرْكِ أَعْظَمِ الآثَارِ إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهِمُ التَّوْجِيهُ وَالتَّرْبِيَةُ.
إِخْوَتِي، إِنَّ هَؤُلَاءِ الأَفْذَاذَ لَمْ يَتْرُكُوا أَمْوَالًا طَائِلَةً وَلَا قُصُورًا شَامِخَةً، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا مَا هُوَ أَبْقَى وَأَجْمَلُ: تَرَكُوا ذِكْرًا حَسَنًا، وَعَدْلًا نَاصِعًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَعِبَادَةً زَاكِيَةً، وَجِيلًا صَالِحًا يَسِيرُ عَلَى خُطَاهِمْ.
وَهَكَذَا – أَيُّهَا الأَحِبَّةُ – فَإِنَّ أَثَرَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ هُوَ دَرْسٌ لَنَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ بِطُولِهَا وَلَا بِعَرْضِهَا، وَلَكِنْ بِمَا نَتْرُكُهُ فِيهَا مِنْ بَصَمَاتٍ يَذْكُرُهَا التَّارِيخُ وَتُسَطِّرُهَا الصَّحَائِفُ.

العُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ لِتَرْكِ أَثَرٍ نَافِعٍ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ الْأَثَرَ الطَّيِّبَ لَا يُصْنَعُ فِي فَضَاءِ الْأَمَانِيِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي مَجَالِسِ الْأَحْلَامِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى بِخُطُوَاتٍ عَمَلِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، يَسْلُكُهَا الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ، فَتَبْقَى لَهُ بَعْدَ رَحِيلِهِ بَصْمَةٌ نَاصِعَةٌ فِي صُحُفِهِ، وَأَثَرٌ بَاقٍ فِي الدُّنْيَا. وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْوَسَائِلِ:
التَّرْبِيَةُ الصَّالِحَةُ
إِنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمَعْمَلُ الْأَوَّلُ لِصِنَاعَةِ الْآثَارِ الطَّيِّبَةِ، وَإِنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ هُمَا أَعْظَمُ مَنْ يَتْرُكُ بَصَمَةً فِي الْأَجْيَالِ. فَالْأَبُ الَّذِي يُعَلِّمُ أَبْنَاءَهُ الْقُرْآنَ، وَالْأُمُّ الَّتِي تُرَبِّي بَنَاتِهَا عَلَى الْعِفَّةِ وَالطَّهَارَةِ، يَتْرُكُونَ أَثَرًا يَسْتَمِرُّ إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» (ابن ماجه 3660، وأحمد 10610 صحيح). فَكُلُّ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ هُوَ أَثَرٌ بَاقٍ فِي صُحُفِهِمَا.
الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ
وَمِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ لِتَرْكِ الْأَثَرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ دَاعِيَةً بِحَالِهِ وَمَقَالِهِ. فَكُلُّ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَكُلُّ نَصِيحَةٍ صَادِقَةٍ، وَكُلُّ قُدْوَةٍ صَالِحَةٍ هِيَ دَعْوَةٌ بَاقِيَةٌ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» (مسلم 1893). فَكَيْفَ إِذَا كُنْتَ سَبَبًا فِي إِنْقَاذِ إِنْسَانٍ مِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى، أَوْ سَبَبًا فِي تَصْحِيحِ عَقِيدَةٍ، أَوْ فِي رَدِّ شَابٍّ إِلَى دِينِهِ؟ هَذَا أَثَرٌ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ ثَرْوَةٍ مَادِّيَّةٍ.
التَّعْلِيمُ وَنَشْرُ الْمَعْرِفَةِ
التَّعْلِيمُ هُوَ أَبْقَى وَأَسْمَى مَا يُورَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ مَنْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ، فَقَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (البخاري 5027). وَلَكِنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الدِّينِ وَحْدَهُ، بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
قال الإمام الخطيب البغدادي: “التصنيفُ في العلم من الصدقة الجارية؛ إذ ينتفعُ به بعد موت صاحبه ما بقي”. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع”. الجامع لأخلاق الراوي (1/223)، نقله السخاوي في المقاصد الحسنة (ص38). وقال عبد الله بن المبارك: “ما من مؤلِّفٍ كتابًا إلا وهو يُعرض على الله يوم القيامة، فإن كان صوابًا كان له، وإن كان خطأً كان عليه”، السخاوي (ص38).
وقال ابن القيم رحمه الله: “العِلمُ خَيْرٌ ما وُرِّث، والعَلمُ ذِكرُهُ أخلَدُ، وأثرُهُ أبقَى، وصاحِبُه مُخلَّدٌ بعد موتِه وهو حيٌّ على ألسنةِ الناس. فإنما يُخلَّد المرءُ بعد موتِه بعِلمِه وعَملِه، والعِلمُ أشرفُ الأثرَين؛ لأن عملَه ينقطعُ بموتِه، وعِلمُه باقٍ ما بَقِيَ الدُّنيا، يَقتبِسُ منه الناسُ”. مفتاح دار السعادة (1/164، 165).
وقال الإمام الشعراوي رحمه الله: “هُنَاكَ إِنْسَانٌ يُعْطِي لِعُمْرِهِ عُمْقًا، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَعْمَلَ لِمُجَرَّدِ حَيَاتِهِ وَيَنْتَهِيَ عُمْرُهُ مَهْمَا كَانَتْ رُقْعَتُهُ وَاسِعَةً، فَهُوَ يَزِيدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَيَتْرُكُ أَثَرًا مِنْ عِلْمٍ أَوْ خَيْرٍ يَسْتَمِرُّ مِنْ بَعْدِ حَيَاتِهِ”. الشعراوي، (ج3، ص1744).
فَالْمُعَلِّمُ فِي فَصْلِهِ، وَالطَّبِيبُ فِي مُسْتَشْفَاهُ، وَالْمُهَنْدِسُ فِي مَشَارِيعِهِ، كُلُّهُمْ يَتْرُكُونَ بَصَمَاتٍ بَاقِيَةً مَا دَامَ نَاسٌ يَنْتَفِعُونَ بِعِلْمِهِمْ. وَأَعْظَمُ الْمِثَالِ فِي ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ كَابْنِ سِينَا فِي الطِّبِّ، وَالْخَوَارِزْمِيِّ فِي الرِّيَاضِيَّاتِ، وَالْبُخَارِيِّ فِي الْحَدِيثِ؛ فَآثَارُهُمْ تَجْرِي إِلَى الْيَوْمِ.
خِدْمَةُ النَّاسِ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ
قَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ كَثِيرًا مِنَ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ يُخْلِّفُ أَعْظَمَ الْآثَارِ بِخِدْمَتِهِ لِلنَّاسِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» (المعجم الكبير للطبراني 13646، حسن). فَكُلُّ مَرَّةٍ تَمْسَحُ دَمْعَةَ يَتِيمٍ، أَوْ تُطْعِمُ جَائِعًا، أَوْ تَرْفَعُ مَظْلُومًا، فَإِنَّمَا تَكْتُبُ فِي دَفْتَرِ الْأَبَدِ أَثَرًا لَا يَزُولُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالشَّجَرَةِ، كُلُّ مَنْ اسْتَظَلَّ بِظِلِّهَا، أَوْ أَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا، كَانَ ذَلِكَ فِي صَالِحِ أَعْمَالِهَا.
الْأَخْلَاقُ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، مِفْتَاحُ الأَثَرِ البَاقِي بَعْدَ رَحِيلِ الإِنْسَانِ هُوَ حُسْنُ خُلُقِهِ وَذِكْرُهُ الجَمِيلُ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ» (رواه أبو داود، ح4798، صحيح). فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ غَابَ عَنْ الدُّنْيَا، وَبَقِيَ أَثَرُهُ فِي القُلُوبِ مَحَبَّةً وَدُعَاءً وَوَفَاءً، وَكَمْ مِنْ آخَرَ مَاتَ فَطُمِسَ ذِكْرُهُ لِسُوءِ أَخْلَاقِهِ.
وَفِي زَمَانِنَا المُعَاصِرِ، تَتَأَكَّدُ الحَاجَةُ إِلَى الأَخْلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى؛ فَالأَبُ الَّذِي يُرَبِّي أَبْنَاءَهُ عَلَى الأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَالأُمُّ الَّتِي تَغْرِسُ فِي بَنَاتِهَا العِفَّةَ وَالطُّهْرَ، وَالمُعَلِّمُ الَّذِي يَغْرِسُ فِي طُلَّابِهِ القِيمَ وَالمَبَادِئَ، كُلُّهُمْ يَتْرُكُونَ أَثَرًا بَاقِيًا لَا يَزُولُ. فَالأَخْلَاقُ الطَّيِّبَةُ هِيَ أَعْظَمُ مَا يُخَلِّدُ ذِكْرَ الإِنْسَانِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهِيَ مِفْتَاحٌ لِمَحَبَّةِ الخَلْقِ وَرِضْوَانِ الخَالِقِ.
الأُسْرَةُ كَمَعْمَلٍ لِلْقِيَمِ
الْأُسْرَةُ هِيَ أَكْبَرُ مَصَانِعِ الْآثَارِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ. فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ صَالِحًا، فَإِنَّ الْمُجْتَمَعَ يَصْلُحُ. وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْمُجْتَمَعَ يَفْسُدُ. فَأَثَرُ الْأُسْرَةِ فِي بِنَاءِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ هُوَ أَثَرٌ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَفْرَادِ إِلَى بِنَاءِ الْأُمَمِ. وَإِنَّمَا تَخْلُدُ الْأُمَمُ بِمَا تَخْلُدُ بِهِ الْأُسَرُ.
الصَّدَقَةُ وَالإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الْمَالُ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ إِذَا أُنْفِقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ ذُخْرًا بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 261]. فَكُلُّ مَسْجِدٍ يُبْنَى، أَوْ بَئْرٍ يُحْفَرُ، أَوْ فَقِيرٍ يُطْعَمُ، هُوَ أَثَرٌ جَارٍ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَعْظَمِ مَنْ خَلَّفَ آثَارًا فِي الصَّدَقَاتِ وَالْإِنْفَاقِ، وَيَكْفِي أَنَّهُ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَاشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ لِلْمُسْلِمِينَ.
يَا أَحِبَّةَ الْإِيمَانِ، بِهَذِهِ الْوَسَائِلِ السبع: التَّرْبِيَةِ، وَالدَّعْوَةِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَخِدْمَةِ النَّاسِ، وَبِنَاءِ الْأُسْرَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالإِنْفَاقِ، يَصْنَعُ الْمُسْلِمُ أَثَرًا عَظِيمًا، يَبْقَى نَافِعًا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ كَالْغَارِسِ لِغَرْسٍ مُبَارَكٍ، يَرَاهُ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَجْنِي ثِمَارَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي اللَّهِ، بَعْدَ أَنْ طُفْنَا فِي رِحَابِ مَعَانِي الْأَثَرِ الطَّيِّبِ، وَعَرَفْنَا قِيمَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَشَاهَدْنَا صُوَرَهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَتَأَمَّلْنَا مَجَالَهُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ، وَخَتَمْنَا بِوَسَائِلَ عَمَلِيَّةٍ تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ بَصْمَةً نَافِعَةً فِي مُجْتَمَعِهِ، نَخْلُصُ إِلَى الْوَصِيَّةِ الْكُبْرَى: كُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الْأَثَرُ
فَالْمَسْؤُولِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ لِلْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ لَيْسَتْ شِعَارًا يُرَدَّدُ، بَلْ عَقِيدَةً وَمَنْهَجًا، وَوَاقِعًا يُعَاشُ. فَالْفَرْدُ الْمُصْلِحُ يَبْنِي أُسْرَةً صَالِحَةً، وَالْأُسْرَةُ الصَّالِحَةُ تَصْنَعُ مُجْتَمَعًا فَاضِلًا، وَالْمُجْتَمَعُ الْفَاضِلُ يُنْشِئُ أُمَّةً رَائِدَةً، تَحْمِلُ رِسَالَةَ الْهُدَى إِلَى الْعَالَمِينَ.
فَاتْرُكُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – أَثَرًا بَاقِيًا فِي الْقُلُوبِ وَالْكُتُبِ وَالطُّرُقِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ، وَاجْعَلُوا حَيَاتَكُمْ عَطَاءً لَا يَنْقَطِعُ، وَبِرًّا يَسْتَمِرُّ، وَعِلْمًا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَدُعَاءً يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَتْرُكُونَ أَثَرًا صَالِحًا فِي الْأَرْضِ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَنَا خَالِصَةً لِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَاجْعَلْ أَوْلَادَنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَنَا، وَاجْعَلْنَا وَإِيَّاهُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ".