الجمعة 03 أكتوبر 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
الايام المصرية

من قلب المأساة الإنسانية التي تعيشها غزة اليوم، حيث تُزهق الأرواح وتُدمَّر المنازل وتُباد العائلات بأكملها، يطفو مجددًا على السطح الحلم الصهيوني القديم المتجدد "إسرائيل الكبرى".

هذا المشروع يتجاوز كونه مجرد طموح توسعي ليصبح أيديولوجيا استعمارية تستند إلى مزيج خطير من الخرافات الدينية والأطماع السياسية والمزاعم التاريخية المزورة.

يعيد الاحتلال الإسرائيلي اليوم إنتاج أسطورة "أرض الميعاد" من تحت أنقاض بيوت الغزيين، مستخدمًا أبشع أساليب القتل والتدمير كأدوات لتحقيق حلمه التوسعي.

لكن هذه المرة، يواجه المشروع الصهيوني مقاومة شرسة لا تقتصر على المقاومة المسلحة فحسب، بل تشمل أيضًا مقاومة الحقائق التاريخية والوقائع الديموغرافية والجغرافية التي تفند أسس هذه الأكذوبة الكبرى.

في هذا المقال ننقب عن أكذوبة إسرائيل الكبرى، بدءًا من جذورها التوراتية المزعومة، مرورًا بالدور البريطاني الاستعماري في إحيائها، ووصولًا إلى الأدلة القاطعة التي تثبت زيفها، كما نكشف كيف تحولت هذه الأسطورة إلى أداة سياسية لتبرير الاستيطان والتهجير والاحتلال، وكيف تُستخدم اليوم ذريعة لتصفية القضية الفلسطينية بأكملها.

البداية المزعومة.. كيف وُلدت فكرة إسرائيل الكبرى؟

عند العودة إلى جذور الأسطورة اليهودية، نجد أن ما يُعرف بـ"إسرائيل الكبرى" لم يولد من رحم التاريخ، بقدر ما وُلد من رحم الخيال السياسي والديني في القرن التاسع عشر.

فقد استندت الرواية الصهيونية إلى نص في سفر التكوين (15:18-21) يزعم أن الله وعد سيدنا إبراهيم عليه السلام بأرض تمتد من النيل إلى الفرات، لكن القراءة المتأنية تكشف أن هذا النص لم يكن يومًا حجر أساس في العقيدة اليهودية القديمة، بل تحوّل في أيدي القساوسة البروتستانت في بريطانيا إلى نبوءة سياسية، صُمّمت خصيصًا لشرعنة الدعم الاستعماري لليهود في فلسطين.

وبعد عشرات القرون جاء تيودور هرتزل في مؤتمر بازل عام 1897 ليتحدث عن "وطن قومي" لليهود بلا حدود مرسومة، فاتحًا الباب أمام كل تأويل توسعي يمكن أن يخدم المشروع، ومن هنا ظهرت الخرائط الملوّنة بخطوط من النيل إلى الفرات.

خرائط لا تجد لها أثرًا في الحفريات أو المخطوطات التاريخية، بل تنتمي إلى مخيلة استيطانية تحوّل الأسطورة إلى ذريعة للتمدّد.

مملكة سليمان.. بين صفحات الوحي وأرض تكذّب الأسطورة

أما الرواية الثانية التي تستند إليها الحركة الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل الكبرى، فهي "مملكة سليمان"، والحقيقة أن هذه المملكة لم تكن يومًا كيانًا سياسيًا مترامي الأطراف كما تصوّره الرواية الصهيونية، بل تحولت بفعل التوظيف الأيديولوجي للنصوص التوراتية المحرّفة إلى إحدى ركائز أسطورة "إسرائيل الكبرى".

فوفقًا لهذه الرواية، كان نبي الله سليمان عليه السلام ملكًا لإمبراطورية عظيمة امتدت من الفرات إلى النيل، تحكمها عاصمة فخمة في أورشليم، يعلوها هيكل مصنوع من الذهب والرخام، وكأنها نسخة توراتية من الإمبراطوريات القديمة.

غير أن النص القرآني الصادق يضع الأمور في نصابها، فيقدّم سليمان عليه السلام نبيًا وملكًا آتاه الله الحكمة والنبوة، وسخّر له الريح والجن والطير، لكنه لم يجعل من ملكه مشروعًا توسعيًا أو خريطة سياسية ترسم حدودًا استعمارية، إنما كان ملكًا مؤسسًا للتوحيد والعدل، يتجاوز وهم الطموحات الأرضية إلى رسالة روحية خالدة.

أما التوراة المحرّفة، فقد كُتبت روايتها بعد قرون طويلة، عقب أكذوبة "السبي البابلي"، فجاءت محمّلة بالرموز والأساطير أكثر مما تحمل من حقائق تاريخية أو دينية. وهنا يكشف علم الآثار أكاذيب وتناقض الروايات الإسرائيلية، حيث لم تُسفر عقود الحفريات منذ القرن التاسع عشر وصولًا إلى أبحاث عالم الآثار الإسرائيلي "إسرائيل فنكلشتاين"، عن أي دليل على وجود مملكة موحدة أو قصور مهيبة في القدس، بل لم يتجاوز ما عُثر عليه بقايا مستوطنة صغيرة فوق "تل أوفيل"، بلا معالم ملكية أو حضارية كبرى.

وفي مقابل هذا الفراغ، تكشف المدن الكنعانية والفلسطينية مثل غزة، عسقلان، مجدو، وحاصور عن حضارة نابضة بالتجارة والصناعة والفنون، متصلة بمصر وبلاد الرافدين. آثارها ونقوشها وعملاتها القديمة تشهد على عمق جذورها التاريخية، وتفضح زيف مقولة "الأرض الخلاء" التي روّجت لها الدعاية الصهيونية.

ومنذ احتلال القدس الشرقية عام 1967، لم تتوقف سلطات الاحتلال عن التنقيب تحت المسجد الأقصى ومحيطه، بحثًا عن أثرٍ يدعم أسطورة "الهيكل"، ولكن الحفريات انتهت بلا دليل معاصر، ورغم ذلك واصلت المؤسسات الإسرائيلية عرض نماذج وصور تخيلية في معارض ومتاحف وكأنها حقائق تاريخية.

وعد بلفور.. صكّ استعماري هدفه فصل الوطن العربي عن مصر لعدم إقامة وحدة عربية

في خريف عام 1917، بينما كانت مدافع الحرب العالمية الأولى تبتلع أرواح الجنود وتغرق أوروبا في دخان الدم والبارود، كان في لندن قلم بارد يرسم على الورق ملامح شرق جديد.

وفي رسالة موجزة سطّرها وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد روتشيلد قال فيها: "منحنا وطنًا قومياً لليهود في فلسطين"، وكأن الأرض العربية دفتر فارغ يكتب عليه الغرب ما يشاء، دون أن يستشير أهلها أو يحترم تاريخها.

لم يكن الوعد فعل إحسان، بل صفقة سياسية باردة؛ وهو ما كشفته الوثائق السرية، إذ أرادت بريطانيا الكيان الصهيوني جدارًا استعماريًا يفصل بين مصر والمشرق، ويقطع أوصال أي مشروع للوحدة العربية.

المال اليهودي، المتمثل في نفوذ عائلات روتشيلد، كان الوقود الذي غذّى هذه الصفقة، مقابل دعم الجيوش البريطانية في حربها الطاحنة.

تخطيط ما قبل التقسيم كان يجري في أروقة المخابرات البريطانية، حيث رُسمت خرائط وخطط لإقامة كيان وظيفي يضرب قلب الأمة، كما ورد في تقرير "أرض إسرائيل ومصر" عام 1915. ثم جاءت الصهيونية العالمية، عبر الوكالة اليهودية وشبكات التهجير، لتصبغ المشروع بلون النبوءة التوراتية، مستعينة بسحر السينما في هوليوود، التي صوّرت فلسطين على أنها أرض بلا شعب تنتظر شعبًا بلا أرض، كما في أفلام أسطورية مثل "الوصايا العشر".

لكنّ المفارقة المريرة أن بريطانيا نفسها، بعد عقدين فقط، أصدرت "الكتاب الأبيض" عام 1939، معلنة أن الدولة اليهودية لن تشمل كل فلسطين. غير أن الصهاينة، ببراعة استغلالية لا تعرف الكلل، ركبوا موجة الحرب العالمية الثانية وابتزوا ضمير العالم، حتى بدت الخرافة التوراتية وكأنها قدر محتوم.

أكذوبة.. "إسرائيل الكبرى"

منذ نشأة المشروع الصهيوني، حاولت الدعاية أن تبني أسطورته على ثلاث ركائز وهي: الإنسان والتاريخ والجغرافيا، غير أن هذه الركائز سرعان ما تهاوت أمام الواقع والحقيقة.

فعلى المستوى الديموغرافي، لم تفلح إسرائيل في صناعة تفوق سكاني رغم ما يسمى "قانون العودة" الذي فتح أبوابها لليهود من كل أصقاع العالم، فالهجرات أخذت تتناقص عامًا بعد عام، حتى لم يتجاوز عدد الوافدين الجدد في 2023 ثمانيةً وعشرين ألفًا فقط، وهو رقم يشي بفتور الحلم الصهيوني، في وقت يواصل فيه الفلسطينيون تكاثرهم الطبيعي بمعدل أعلى يهدد التوازن العددي داخل الأرض المحتلة.

لهذا لم يكن غريبًا أن يقرّ تقرير جهاز الشاباك في 2022 بأن السيطرة على الضفة ستدفع إسرائيل إلى مصير دولة فصل عنصري لا يمكنها الاستمرار.

أما على صعيد التاريخ والآثار، فقد بذلت سلطات الاحتلال عقودًا من الحفريات في القدس ومحيطها، من أنفاق الحائط الغربي إلى سلوان، بحثًا عن شواهد مملكة داود وسليمان المزعومة، لكن النتائج جاءت عكس ما أرادوه؛ إذ كشفت التنقيبات عن آثار كنعانية ومصرية وفلسطينية، بينما ظل "الهيكل" مجرد خرافة معلقة في الهواء.

بل إن عالم الآثار الإسرائيلي زئيف هرتسوغ كتب بوضوح أن "مملكة داود العظيمة لم توجد أصلًا، وكل ما في التوراة من هذا القبيل أساطير"، وهو اعتراف ينسف البنية الروائية التي بُني عليها المشروع الصهيوني.

وعلى المستوى الجيوسياسي، كان حلم "إسرائيل الكبرى" يتغذى على مخططات مثل خطة "ينون" عام 1982 التي بشّرت بتفتيت الدول المجاورة لإقامة شرق ممزق تتحكم فيه تل أبيب.

غير أن مقاومة غزة والضفة، ومعها حزب الله في لبنان، قلبت المعادلة رأسًا على عقب. لقد صار الحلم كابوسًا، حتى إن نتنياهو نفسه حين رفع خريطته الشهيرة في الأمم المتحدة عام 2018، تجنّب أن يُظهر الضفة وغزة كجزء من إسرائيل، خشية أن تنفجر ردود الأفعال.

وأخيرًا، بعد أن فندنا أكذوبة إسرائيل الكبرى، لا يحضرني إلا الكلمات الخالدة للراحل محمود درويش حيث لخص القضية الفلسطينية في قوله: «إنهم يقتلون الشعب ليحتلوا الأرض، لكن الأرض ترفض أن تنجب إلا مقاتلين

 

تم نسخ الرابط