
ليلة السبت لم تكن عادية في قلب القاهرة الكبرى، فبين أزقة بولاق وميدان الترجمان وسط العاصمة، وفي مدينة شبين القناطر بالقليوبية، اندلعت ثلاثة حرائق مروعة خلفت وفيات وإصابات وخسائر مادية كبيرة، وأعادت إلى الواجهة سؤالًا يتكرر مع كل كارثة جديدة: هل باتت الحرائق في مصر مؤامرة مدبرة أم نتيجة مباشرة لإهمال البلديات وغياب الرقابة؟
المشهد لم يعد مجرد حادث عرضي، فقد تحولت الحرائق إلى ظاهرة مقلقة تمتد من الأسواق الشعبية والمحال الصغيرة والأكشاك العشوائية إلى المولات التجارية والمنشآت الحكومية، حيث اشتعلت النيران من قبل في مبنى سنترال رمسيس ومنطقة البريد والمعامل المركزية بوزارة الصحة، وكذلك في المصانع والمدن الصناعية بالمحافظات.
هذه السلسلة من الأحداث تكشف هشاشة منظومة السلامة المهنية وتطرح تساؤلات خطيرة حول مدى التزام المؤسسات بالقوانين المنظمة.
بصفتي متخصصًا في الإدارة الحكومية والمحلية، أؤكد أن استمرار غياب الرقابة من البلديات وانعدام التراخيص القانونية للمحال والمخازن يضع المواطنين أمام مخاطر يومية، كما أن الفجوة واسعة بين عدد مفتشي السلامة والصحة المهنية وحجم المنشآت الحكومية والخاصة، وهو ما يعد نتيجة مباشرة لقصور تطبيق قانون العمل رقم 12 لسنة 2003.
وغالبًا ما يكتفي المحافظون والمسؤولون بالتواجد في موقع الحادث لرفع آثار الحريق دون تقديم حلول جذرية للأزمة أو إيجاد بدائل آمنة للأنشطة المخالفة.
علم إدارة الأزمات يمر بعدة مراحل تبدأ بالتنبؤ بالأزمة ووضع الاستراتيجيات البديلة قبل وقوعها ثم إدارة الأزمة أثناء حدوثها وصولًا إلى التخطيط لما بعد انتهائها، إلا أن الواقع في مصر يكشف أن هذه المراحل تكاد تكون غائبة أو مطبقة بشكل شكلي، إذ لا توجد خطط واضحة للإخلاء أو للتعامل الفوري مع النيران، كما أن موظفي الأمن الصناعي في المؤسسات غير مدربين بشكل كافٍ على احتواء الكوارث.
الإجراءات الوقائية التي يمكن أن تقلل من هذه المآسي معروفة ومتفق عليها عالميًا، مثل تركيب أنظمة إنذار مبكر ورشاشات مياه أوتوماتيكية، وتخزين المواد القابلة للاشتعال في أماكن مخصصة وآمنة، وتدريب الموظفين على خطط الإخلاء، وتوفير مخارج طوارئ واضحة، إلى جانب وجود فرق فنية متخصصة داخل الوزارات والهيئات الحكومية للتعامل مع الحرائق بالتنسيق مع الدفاع المدني.
لكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن التنفيذ على الأرض يظل محدودًا للغاية، ما يفتح الباب لتكرار نفس المشاهد المروعة مرة بعد أخرى.
وإذا عقدنا مقارنة مع الدول العربية والإقليمية سنجد فجوة واضحة، فبينما يتم التعامل مع الحرائق الكبرى في بعض البلدان عبر خطط متقدمة تشمل استخدام طائرات هليكوبتر لإخماد النيران بسرعة، يظل التعامل في مصر بطيئًا وعرضة للأخطاء بسبب ضعف الإمكانات وغياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة.
إن تكرار الحرائق في القاهرة الكبرى والمحافظات لم يعد مجرد حوادث فردية، بل أصبح ظاهرة تشير إلى خلل إداري وتشريعي واضح، فما بين قوانين لا تطبق ورقابة غائبة ومحال وأكشاك تعمل بلا تراخيص، تبقى حياة المواطنين وممتلكاتهم مهددة.
وهنا يظل السؤال قائمًا: هل تتحرك الدولة لإعادة بناء منظومة السلامة والرقابة على أسس علمية ووقائية، أم أن ألسنة اللهب ستظل تلتهم المدن المصرية واحدة تلو الأخرى؟
بقلم الدكتور حمدي عرفة
أستاذ الإدارة الحكومية والمحلية