
التسامح ليس مجرد خُلُق إنساني جميل، بل هو صفة ربانية جعلها الله أساسًا لإعمار الأرض وتحقيق السلام بين البشر.
إنه البوابة التي يدخل منها النور إلى القلوب، والسر الذي يجعل الحياة أوسع من حدود الخلافات، وأجمل من ثقل الأحقاد.
والمتسامح إنما يعلو بنفسه فوق الجراح، ويأخذ قبسًا من نور الله، فيتخلى عن حقه ابتغاء رضوانه، متجردًا من الأنا ومتحررًا من قيود الانتقام.
لقد أوصى القرآن الكريم بالتسامح باعتباره أداة للتواصل الإنساني، ووسيلة لتحقيق مراد الله في الأرض، فحيثما وُجد التسامح وُجد العمران، وحيثما غاب عمّت الفوضى والنزاع.
التسامح والحكمة والموعظة الحسنة من أخلاق الأنبياء
حين نتأمل في سيرة الأنبياء نجد أن التسامح كان رفيقهم في الدعوة إلى الله، وأن الحكمة كانت جناحه الذي يرفرف به على قلوب الناس، يقول الله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125).
في هذه الآية يرسم الله منهج الدعوة القائم على اللين والرفق، لأن القلوب لا تُفتح بالقسوة بل بالمحبة.
ويزيد القرآن المعنى وضوحًا حين يمدح عباد الرحمن فيقول تعالى: "وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا" (الفرقان: 63)، وكأنها دعوة إلى إطفاء شرارة الجهل بكلمة سلام.
ثم يأمرنا الله بمبدأ جامع للتسامح في قوله تعالى: "خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف: 199)، وهنا يجعل العفو أول الطريق قبل الأمر بالمعروف، لأنه مفتاح صفاء القلوب.
حتى في الحوار مع غير المسلمين جاءت التوجيهات الإلهية واضحة: "وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وهي آية تعلّمنا أن التسامح ليس ضعفًا، بل هو قوة أخلاقية تضبط الحوار وتفتح أبواب الهداية.
التسامح ولغة القلوب
التسامح هو اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة، لأنه يخاطب القلب مباشرة، وفي خطاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم نجد هذا المعنى جليًا: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ" (آل عمران: 159)، وكأن الرحمة هي الجسر الذي تعبر عليه الدعوة إلى القلوب.
ويقرن الله بين عفو الإنسان عن أخيه وبين مغفرته سبحانه في الآخرة فيقول: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" (النور: 22). إنها معادلة سماوية: اغفر للناس يغفر الله لك.
وقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم التسامح في أبهى صوره، ففي يوم فتح مكة قال لمن آذوه وحاربوه: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ليعلّمنا أن العفو عند المقدرة هو قمة القوة لا قاع الضعف.
التسامح قوة تصنع السلام
التسامح ليس تنازلًا عن الحق، بل هو ارتقاء بالروح فوق دائرة الانتقام. في حياة الصحابة والتابعين قصص تفيض بالصفح، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على مِسطح بن أثاثة، فلما خاض في حادثة الإفك حلف أبو بكر أن يقطع عنه النفقة، فنزل قول الله تعالى: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" (النور: 22)، فعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليه، ليكون قدوة في امتثال أوامر الله.
إننا حين نتسامح، فإننا لا نمحو خطأ الماضي فقط، بل نزرع أمل المستقبل، ونبني مجتمعًا تتسع أرضه وسماؤه لكل أبنائه. فالتسامح سلام داخلي يفيض على الآخرين، وبدونه لا يمكن أن تزدهر حضارة أو يستقر وطن.