الجمعة 08 أغسطس 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
الايام المصرية

في ظل مشهد إقليمي شديد التعقيد، تمر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنعطف حاد، حيث تتشابك خيوط الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية في سياق إقليمي ودولي يعيد رسم خرائط النفوذ ويفرض ملامح جديدة لمعادلة الأمن والاستقرار. 

فسياسة القوة لم تعد مجرد نهج نظري تنتهجه بعض الدول الكبرى، بل تحوّلت إلى واقع عملي يُمارَس يوميًا في المنطقة، بأدوات متعددة تبدأ بالتدخلات العسكرية المباشرة، ولا تنتهي عند حدود التأثير السيبراني والتحكم في الموارد الاستراتيجية.

تحوّلت المنطقة إلى ساحة اختبار مفتوحة بين القوى الدولية والإقليمية، حيث تبرز الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، إلى جانب القوى الإقليمية مثل إيران، وتركيا، والسعودية، كلاعبين رئيسيين يسعون إلى إعادة تعريف توازن القوى في الشرق الأوسط، مستخدمين مزيجًا معقدًا من التحالفات، والحروب بالوكالة، والعقوبات الاقتصادية، والتدخلات العسكرية، والدبلوماسية القسرية، وكل ذلك على حساب الاستقرار السياسي والأمن الإنساني في بلدان تعاني أصلاً من هشاشة مؤسسية وتآكل في بنية الدولة الوطنية.

السياسة الواقعية التي تنطلق منها فكرة “سياسة القوة” ترى أن العلاقات الدولية تُحكم بمنطق المصلحة والقوة لا بالشرعية أو المبادئ، وهو ما نراه جليًا في المشهد الحالي؛ فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بلغ مستويات غير مسبوقة من التصعيد، بعدما تحوّل العدوان على قطاع غزة إلى تهديد إقليمي، يفاقم التوترات ويعيد رسم الاستقطاب في النظام الدولي. 

وفي الوقت نفسه، يشهد التوتر بين إيران وإسرائيل تصعيدًا عسكريًا خطيرًا، في ظل ضربات إسرائيلية متكررة على منشآت نووية إيرانية، وردود غير مباشرة عبر وكلاء طهران في المنطقة، من لبنان إلى اليمن. 

أما الولايات المتحدة، التي تتحدث عن تقليص وجودها، فلا تزال حاضرة عسكريًا عبر الدعم المفتوح لإسرائيل، والمشاركة المباشرة في بعض المواجهات.

الملف الليبي نموذج صارخ لتداعيات سياسة القوة في الشرق الأوسط

الملف الليبي لا يزال يمثل نموذجًا صارخًا لتداعيات سياسة القوة على دولة فقدت توازنها السياسي منذ عام 2011. التدخلات الإقليمية والدولية في ليبيا ساهمت في تكريس الانقسام بين الشرق والغرب، وتعطيل عملية بناء الدولة، وسط حالة من الجمود السياسي التي تُبقي البلاد رهينة لصراع على السلطة والثروات. 

وفي اليمن، بات الصراع نموذجًا للمواجهة غير المباشرة بين السعودية وإيران، حيث تحوّل الحوثيون إلى أداة لتعطيل الملاحة الدولية، وتحديدًا في البحر الأحمر وباب المندب، مما تسبب في انخفاض بنسبة 42% في عبور قناة السويس خلال عامي 2024 و2025، ما يشير إلى التأثيرات الاقتصادية المباشرة على الأمن الإقليمي والدولي.

في سوريا، يزداد تعقيد المشهد بفعل تقاطع المصالح بين الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا، في ظل غياب أي أفق واضح لتسوية سياسية شاملة، وتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة لتجريب إستراتيجيات النفوذ والتفوق العسكري. 

أما على مستوى التنافس الإقليمي، فإن الصراع المستمر بين إيران والسعودية، والخلافات المتقطعة بين قطر والإمارات، والتمدد التركي في أكثر من ملف، كلها عناصر تؤجج حالة الاستقطاب وتعمّق الانقسامات داخل بنية النظام الإقليمي العربي.

ومن ناحية أخرى، لعبت الحرب الروسية – الأوكرانية دورًا محفزًا لإعادة اهتمام القوى الكبرى بالمنطقة، خاصة في مجالات الطاقة والنقل البحري، فعلى الرغم من ميل الولايات المتحدة سابقًا للانسحاب من الملفات الإقليمية، كما في ليبيا وسوريا، فإن هذه الحرب أعادت للشرق الأوسط أهميته الاستراتيجية، لا سيما في ظل تصاعد المنافسة مع الصين وروسيا على مناطق النفوذ وموارد الطاقة، ما دفع هذه القوى لتكثيف حضورها من جديد.

ما الذي يعنيه تصاعد الصراع في الشرق الأوسط للاقتصاد العالمي؟

أدوات سياسة القوة التي تُستخدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تعد تقليدية فقط، بل تشمل مزيجًا من القوة العسكرية – عبر الانتشار والتحالفات والحروب المباشرة وغير المباشرة – إضافة إلى القوة الاقتصادية عبر العقوبات والتحكم في سلاسل الإمداد والمساعدات، والقوة الناعمة التي تشمل الإعلام، والتعليم، والتأثير الأيديولوجي، وصولًا إلى القوة التكنولوجية التي باتت تلعب دورًا متزايدًا في السيطرة على الفضاء السيبراني ومراقبة تدفقات المعلومات والاتصالات. 

كل هذه الأدوات مجتمعة تُسهم في إعادة رسم ملامح المنطقة وتحديد مراكز الثقل الجديدة في النظام الإقليمي.

غير أن النتيجة النهائية لكل هذه السياسات كانت كارثية في كثير من الحالات. فقد تسببت سياسة القوة في تفكك بعض الدول أو إضعاف سلطاتها المركزية، ما أتاح الفرصة لتصاعد دور التنظيمات المسلحة والمتطرفة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة الدمار الواسع للبنية التحتية، وهروب الاستثمارات، وانتشار الفساد. 

كما أسفرت عن أزمات إنسانية غير مسبوقة، من نزوح جماعي، وتفشي الفقر، وانهيار الأنظمة الصحية والتعليمية، فضلاً عن تهديدات أمنية ممتدة كالإرهاب العابر للحدود، وتهريب الأسلحة، والموجات المتزايدة من الهجرة غير الشرعية.

ورغم هذا الواقع المتأزم، فإن فرصًا قائمة لا تزال ممكنة لإعادة بناء المنطقة على أسس جديدة، إذا ما أُعيد الاعتبار إلى مبدأ المصالح المشتركة، وتم تفعيل أدوات الدبلوماسية الإقليمية، وتقوية آليات التعاون العربي، خاصة في القضايا الجوهرية مثل القضية الفلسطينية، والتكامل الاقتصادي، والاستثمار في مشروعات التنمية المستدامة. ومع تراجع الاعتماد على القوى الأجنبية كوسيط في حل الأزمات، تبرز الحاجة إلى مبادرات عربية تقودها قوى إقليمية فاعلة مثل مصر، تضع الأمن القومي العربي على رأس أولوياتها، وتعمل على توظيف مزيج من القوة الذكية (smart power) لتثبيت الاستقرار.

الصراعات الملتهبة... تحاصر خريطة العرب

السيناريوهات المستقبلية في صراع القوى في الشرق الأوسط

السيناريوهات المستقبلية التي قد تشهدها المنطقة تتراوح بين استمرار الصراعات إذا لم تُحل جذورها، أو انتقالها إلى ساحات جديدة مثل الحروب السيبرانية والاقتصادية، أو بروز تحالفات جديدة تخلق نوعًا من التوازن في علاقات القوى، وتحد من التدخلات الخارجية.

ويبقى السيناريو الثالث هو الأرجح، شرط توفر الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية لتحقيق التوازن الإقليمي، وتعزيز الحضور العربي الجماعي في ملفات الأمن، والتنمية، والسيادة.

إن قراءة مشهد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم في ضوء سياسة القوة يكشف عن تحول عميق في بنية الصراع الإقليمي، وصعود أدوات جديدة للتأثير والنفوذ، لكن في المقابل، لا تزال الفرصة سانحة لصياغة مسار بديل، يقوم على تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية، وبناء القدرات الذاتية، وتجاوز منطق الصراع الصفري، لصالح شراكات تحقق الاستقرار، وتحفظ للشعوب حقها في الأمن والتنمية والكرامة.

لواء دكتور: عادل الديب 

مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة الأسبق

تم نسخ الرابط