الثلاثاء 12 أغسطس 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
الايام المصرية

مع كل حادثة انتحار، يثور في المجتمعات الإسلامية سؤال ملح: ما مصير المنتحر؟ هل يُغسّل ويُكفّن وتُقام عليه صلاة الجنازة؟ وهل يُدفن بين المسلمين كما يُدفن سائر موتاهم؟ وتكثر الآراء، وتمتزج الأحكام بمشاعر الحزن، ويختلط الفقه بالرحمة.

وتظل قضية الانتحار من أكثر القضايا التي تهز الضمير الإنساني وتفتح أبواب الأسى في القلوب، فهي لحظة ضعف قاتلة، ينكسر فيها الإنسان أمام همّه، فيظن أن الخلاص يكمن في إنهاء الحياة، غير مدرك أن اليأس الذي أعمى بصيرته لا يُعفيه من الحساب، ولا يبدل الحقيقة الكبرى بأن حياته أمانة وُضعت بين يديه لا يملك التفريط فيها. 

في الفقه الإسلامي، يُعتبر الانتحار ذنبًا عظيمًا من الكبائر التي حذرت منها الشريعة، لكن المنتحر لا يُخرج نفسه من دائرة الإسلام ما لم يصاحبه إنكار لعقيدة أو استخفاف بحدود الدين، ولذلك فإن الراجح عند جمهور العلماء أن المنتحر يُغسل ويُكفن وتُصلى عليه صلاة الجنازة ويدفن في مقابر المسلمين، لأنه لا يزال من أهل القبلة، مؤمنًا مذنبًا، لا مرتدًا كافرًا.

وقد نقل الإمام النووي هذا القول عن جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، الذين أكدوا أن المنتحر يُعامل معاملة الميت المسلم، وأن حقه في الصلاة عليه لا يسقط بمعصيته، بل يُترك أجره وعقابه لله تعالى.

ومع هذا الحكم، يُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصلِّ على رجل قتل نفسه، كما ورد في حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم، إذ أُتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يُصلِّ عليه. 

وقد أوضح العلماء أن امتناع النبي عن الصلاة عليه لم يكن ناتجًا عن إخراجه من الملة، بل كان موقفًا تربويًا مقصودًا، يهدف إلى ردع الناس، وزجرهم عن الوقوع في هذه الجريمة، خاصة حين تصدر عن أصحاب النفوذ أو التأثير في المجتمع. ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية التي تفيد بأن كبار القوم – من أئمة وقضاة وأولي الشأن – يُستحب لهم أن يتخلوا عن الصلاة على المنتحر، لا طعنًا في إيمانه، بل إنكارًا للفعل وتنبيهًا لخطره، على أن يتولى عامة المسلمين الصلاة عليه حتى لا يُحرم من شعائر الموت.

وهذا التوازن في الحكم يجسد روح الشريعة الإسلامية التي تمزج بين العدل والرحمة، فلا تُقصي المذنب ولا تُغري بالعصيان، بل تضع كل ذنب في موضعه، وتُبقي الباب مفتوحًا بين العبد وربه حتى آخر لحظة في حياته. ولذلك فإن المنتحر، مهما بلغ ذنبه، لا يُعامل في الإسلام معاملة الكفار، ولا يُجرد من حقوقه الدينية، بل يُدفن بين المسلمين وتُقام له الشعائر، ونرجو له رحمة الله، ولا نشهد له بجنة ولا نار.

 

والأخطر من كل ذلك، أن نترك انتحار المنتحر دون أن نلتفت إلى الأسباب، أو نُحمّل الميت ذنبه دون أن نُراجع تقصيرنا في احتوائه أو التخفيف عنه، فالإسلام وإن كان قد حذّر من الانتحار وأغلق أبوابه، فإنه في الوقت ذاته دعا إلى الرحمة، وفتح سبل النجاة أمام كل مهموم، ودعا إلى الكلمة الطيبة، والمواساة، وفتح باب الأمل، لأن الكلمة التي تزرع الصبر قد تنقذ روحًا من الهلاك. فلتكن قضية الانتحار جرس إنذار لا لحساب الموتى فقط، بل لمراجعة الأحياء، ولسؤال أنفسنا: ماذا قدمنا لمن فقدوا الأمل؟ وهل كنا بلسماً أم جرحاً؟ إن المنتحر لم يكن كافرًا بل كان مكسورًا، والإسلام لا يُقصي المنكسرين بل يجبرهم، ولا يُدين الضعفاء بل يفتح لهم أبواب التوبة... وما أعظم منطق الرحمة في دينٍ لا ينظر إلى الخاتمة فقط، بل يتفهم الطريق إليها.

تم نسخ الرابط