الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
الايام المصرية

في صمتٍ يُخيّم كالضباب، تتسلل المخدرات أو الموت الأبيض إلى شرايين الوطن، لا بصوت رصاصٍ ولا دويّ انفجار، بل بمسحوقٍ يختلط بالدماء، وسائلٍ يذوب في العروق، وسيجارةٍ تُحرق المستقبل قبل أن تُحرق التبغ. 

إنها ليست مجرد مواد تُباع وتُشترى، بل هي سكينٌ غادرٌ يقطع خيوط الحياة واحدةً تلو الأخرى، يحوّل الشباب من بُناةٍ إلى ضحايا، ومن أحلامٍ إلى أرقامٍ في سجلات المستشفيات والسجون. 

في مشهدٍ يتكرر كل يوم نجحت الأجهزة الأمنية في ضبط أكثر من 228 كجم من المواد المخدرة المتنوعة «حشيش، وإستروكس، وهيدرو، وهيروين، وآيس، وبودر، وكوكايين، وMDMA، وكمية من الأقراص المخدرة» وتقدر القيمة المالية للمواد المخدرة المضبوطة بأكثر من 26 مليون جنيه.

لكن هذه الضبطية رغم ضخامتها، ليست سوى غيضٍ من فيضٍ، فالسوق السوداء للمخدرات في مصر تنمو كالوحش الذي يتغذى على اليأس والفراغ، لينهش أكباد الشباب، ويهدر ثروات الوطن.

إمبراطورية السموم.. أرقام تكشف الكارثة الصامتة

حين نضع عدسة الإحصاءات على وجه الظاهرة، تتجلى صورة وطنٍ يئنّ تحت وطأة وباء اجتماعي ينهش مستقبله من داخله.

ففي عام 2024، كشف تقرير صندوق مكافحة الإدمان عن رقم مفزع للمدمنيين في مصر، مؤكداً أن هناك نحو 6.4 مليون متعاطٍ للمخدرات في مصر، منهم 2.7 مليون شخص غارق في الإدمان ويحتاج إلى تدخل علاجي فوري.

وأشار التقرير إلى أن مصر تحتل المرتبة الثالثة عربيًا، والمرتبة الـ21 عالميًا في معدلات التعاطي، وفق تصنيف مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC).

لكن الكارثة لا تتوقف عند حدود الأعداد، فالموت ذاته أصبح رفيقًا دائمًا لهؤلاء، إذ تُسجل مصر سنويًا 4200 حالة وفاة نتيجة جرعات زائدة، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية (2023). 

إنها ليست مجرد إحصائية باردة، بل آلاف النهايات المفجعة، كل منها قصة حياة انطفأت مبكرًا، وحلم ذبل تحت تأثير السم القاتل.

أما الجانب الاقتصادي لتجارة المخدرات، فالصورة أكثر إظلامًا، حيث تُقدّر قيمة سوق المخدرات في مصر بنحو 72 مليار جنيه سنويًا (أي ما يعادل 1.5 مليار دولار) وهو رقم يوازي ميزانيات قطاعات خدمية كاملة، لكنه يُهدر في اقتصادٍ خفيّ، ينمو على أنقاض العائلات ومستقبل الأجيال.

هذه ليست مجرد أرقام في صفحات التقارير، بل هي مؤشرات قاتمة على حرب داخلية شرسة، تتطلب أكثر من مجهود أمني أو طبي، بل تعبئة وطنية شاملة لانتشال مجتمع بأكمله من براثن الضياع.

المخدرات في مصر.. ضبطيات مرعبة وحقائق صادمة عن الجريمة والدمار الاجتماعي

في جغرافيا الجريمة، تتحدث الأرقام بلغة صارخة لا تعرف المجاز، تكشف عن واقع تنفجر فيه تجارة الموت على قارعة كل شارع، وتضخّ السمّ في شرايين المدن والقرى دون استثناء.

ففي عام 2022 كان عامًا دامغًا بالأرقام، إذ أعلنت وزارة الداخلية عن ضبط 93,997 قضية مخدرات، توزعت بين تعاطٍ وترويج واتجار عبر مختلف محافظات الجمهورية، أما كميات المضبوطات فكانت مفزعة، لتشمل:

  •  347 طنًا من البانجو
  •  28.7 طنًا من الحشيش
  •  3.4 طن من الهيروين
  •  847 كغم من الإستروكس
  •  أكثر من 23 مليون قرص مخدر

ولا تقلّ بداية عام 2023 رعبًا عن سابقتها؛ ففي يناير وحده، تمكنت الأجهزة الأمنية من ضبط أكثر من 228 كجم من المواد المخدرة المتنوعة، تتراوح بين الحشيش والهيروين إلى الكوكايين وMDMA، بقيمة مالية تجاوزت 26 مليون جنيه.

أما إذا عدنا لعام 2020، فالصورة لم تكن أقل ظلمة، بل كانت مقدمة لكارثة نعيش تداعياتها اليوم حيث كشفت الإحصائيات عن حصيلة مفعمة بالكوارث:

  •  44.4 طن من الحشيش
  •  1.28 طن من الهيروين
  •  259 كغم من الأفيون
  •  4 كغم كوكايين
  •  13.7 مليون قرص ترامادول
  •  14.6 مليون قرص كبتاغون

إن ما تم ضبطه ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، فالسوق السوداء للمخدرات تنمو تحت الأرض كما تنمو الحشائش السامة، في ظل بيئة خصبة من البطالة والإحباط والتفكك المجتمعي.

الإدمان والجريمة.. دوامة الانهيار الاجتماعي

ليس الإدمان انحرافًا فرديًا فحسب، بل هو جريمة ممتدة الأثر تهدد النسيج المجتمعي برمّته، وهو ما تكشفه الإحصائيات الرسمية التي أكدت أن:

  •  38% من نزلاء السجون في مصر متورطون في قضايا تتعلق بالمخدرات.
  •  64% من جرائم السرقة بالعنف ترتبط ارتباطًا مباشرًا بتعاطي المواد المخدرة.
  •  72% من حالات الطلاق بين الشباب من الفئة العمرية 25–35 عامًا ناتجة عن تعاطي أحد الزوجين للمخدرات، بحسب المجلس القومي للمرأة.
  • 12 شاباً يُفقدون يوميًا في مصر بسبب جرعة سموم قاتلة.

هذا التداخل بين الإدمان والجريمة يؤكد أن المخدرات ليست مجرد تحدٍ صحي، بل عامل تفجير اجتماعي يهدد الاستقرار الأسري والأمن المجتمعي معًا.

أما عن أسباب تفشي هذا الطاعون في جسد الوطن فقد كشفتها دراسة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (2024) والتي توصلت إلى نتائج مرعبة أكدت فيها أن:

49% من المدمنين عاطلون عن العمل، ما يشير إلى العلاقة الطردية بين الإحباط الاقتصادي والانزلاق نحو الإدمان.

 33% من المتعاطين لديهم تاريخ عائلي مع المخدرات، ما يعكس انتقال الظاهرة وراثيًا واجتماعيًا بين الأجيال.

 68% من المدمنين بدأوا التعاطي قبل سن العشرين، أي أن الفخ يُنصب مبكرًا، في لحظة غياب التوجيه والرعاية.

في خضم هذا المشهد المأساوي، لا يكفي أن نرصد الأرقام ونسجل الضبطيات، بل لا بد من الاعتراف أن الإدمان في مصر لم يعد خطرًا عابرًا، بل هو جائحة داخلية تنخر في أركان الدولة، تتطلب يقظة وطنية، وقرارًا سياسيًا وثقافيًا بإنهاء هذه الحرب قبل أن تلتهم المستقبل.

الدولة في مواجهة السموم.. الأمن والعلاج على جبهتي الحرب ضد المخدرات

معركة وجودية لا تقبل التراخي، تخوضها الدولة المصرية ضد آفة المخدرات، واضعة على عاتقها مسؤولية مزدوجة، ما بين قمع الجريمة من جهة، وانتشال الضحايا من مستنقع الإدمان من جهة أخرى. 

بدأت الدولة جهودها في محاربة هذا الطاعون بالسلاح القانوني والتشريعي، فأصدرت قانون فصل الموظف المتعاطي (2021) ليُشكل نقلة تشريعية حاسمة في ردع المخدرات داخل الجهاز الإداري للدولة، بعد أن تحوّلت المؤسسات إلى بيئات ملوّثة بالخطر الخفي، وكان من أهم النتائج المترتبة على صدور هذا القانون:

  •  17,000 موظف بادروا إلى العلاج الطوعي بعد إقرار القانون.
  •  1,000 موظف تم فصلهم نهائيًا، في رسالة صارمة بعدم التسامح.

كما كشفت تقارير صندوق مكافحة الإدمان عن فحص 627,000 موظف بين عامي 2019 و2022، ما أدى إلى انخفاض نسبة التعاطي من 8% إلى 0.7%، في إنجاز يُحسب للصرامة التشريعية والدعم المؤسسي المستمر.

أما عن الجانب الأمني، فقد أعلنت وزارة الداخلية عن خطة استراتيجية (2024–2030) لتعزيز قدرات المواجهة شملت رفع عدد ضباط مكافحة المخدرات إلى 5,000 ضابط متخصص.

فضلاً عن دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في تتبع الشبكات الإجرامية، ورصد تحركاتها، وتحليل أنماط توزيع المواد المخدرة، في سابقة تسعى لتحويل المعركة إلى حرب استخباراتية ذكية.

كما تم إنشاء وتحديث 42 مركز علاج إدمان، بتكلفة إجمالية بلغت 1.2 مليار جنيه، لتوفير بيئة علاجية متكاملة.

كما تم تضمين العلاج في منظومة التأمين الصحي الشامل، خطوة مفصلية لتكريس مبدأ "العدالة العلاجية" ومحاربة وصمة الإدمان التي كثيرًا ما تعيق التعافي.

اللافت في نتائج علاج الإدمان أن 62.22% من المتعالجين كانوا عاطلين عن العمل، ما يرسخ الارتباط بين الإدمان والحرمان الاقتصادي، ويطرح الحاجة الماسّة لدمج العلاج بخطط التنمية والتوظيف.

650 مليار دولار سنويًا.. فاتورة تجارة المخدرات على مستوى العالم

أما بالنظر إلى أسواق المخدرات العالمية، فتشير الإحصائيات العلمية إلى أن سوق المخدرات العالمي تجاوز حاجز 650 مليار دولار سنويًا، وهو رقم يفوق الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 160 دولة مجتمعة، ويعكس حجم الكارثة العابرة للحدود. 

كما تشير الإحصائيات إلى أن عدد المتعاطين حول العالم بلغ نحو 296 مليون شخص، من بينهم 36 مليونًا يحتاجون إلى تدخل علاجي عاجل. 

وفي هذا المشهد الكارثي، تحتل مصر المرتبة 21 عالميًا في عدد المتعاطين، والمرتبة التاسعة في معدل النمو السنوي للإدمان، ما يضعها ضمن دائرة الخطر المتسارع، ويستدعي تدخلًا وطنيًا حاسمًا واستراتيجيات وقائية مدروسة لمواجهة هذا التمدد الصامت للسموم.

المخدرات في مصر.. معركة بقاء تتطلب تنسيقًا وطنيًا شاملاً لمواجهة الخطر المتصاعد

إن أزمة المخدرات في مصر تمثل تحديًا وطنيًا مركبًا ينهش جسد المجتمع في صمت، لا يهدد فقط صحة الشباب وأمنهم النفسي، بل يضرب صميم الاقتصاد ويقوّض ركائز التنمية. 

فانتشار المواد المخدرة لم يعد حكرًا على الفئات الهامشية، بل تسلل إلى المدارس والجامعات ومراكز العمل، في ظل تراجع دور الأسرة، وضعف الوعي المجتمعي، وتراجع منظومة القيم. 

والواقع يفرض علينا ضرورة تحرك جماعي تشاركي، لا تقتصر مسؤوليته على وزارات الداخلية والصحة والتضامن، بل تشمل كذلك التعليم، الثقافة، الإعلام، الأزهر والكنيسة، ومؤسسات المجتمع المدني.

فالمعركة ضد المخدرات ليست أمنية فقط، بل هي معركة وعي ووقاية وتنمية وعدالة اجتماعية، تتطلب رؤية استراتيجية وطنية موحدة، تُركز على الوقاية والتأهيل، بالتوازي مع الضربات الأمنية والرقابة على سلاسل التوزيع والتهريب، ومكافحة تجارة السموم التي تهدد مستقبل الأمة من الداخل.

د. حماد الرمحي

خبير التخطيط الاستراتيجي والتحول الرقمي في الصحافة والإعلام

تم نسخ الرابط