
كان رمزًا للحنان، وعنوانًا للمحبة، ومأوى للأمان كلما ضاقت بنا الحياة، وسفيرًا للنُبل والكرم بين الناس، لا تعرف مجالسه إلا الطيب، ولا تخرج من حضرته إلا وأنت مشبع بالسكينة.
كان بلسمًا للجراح، وسندًا للضعفاء، وملاذًا لكل من ضاقت به الدنيا وضنّ عليه الزمان... إنه خالي الحبيب، محمد فراج، الرجل الذي لم يكن مجرد فرد في العائلة، بل كان عمودها الثابت، وملحها الذي لا يُرى ولكنه يمنح لكل شيء مذاقه الجميل.
منذ أن رحلت، امتلأت بيوتنا بصدى التعازي، وترددت كلمات المواساة في كل مكان: "عظّم الله أجركم"، "ربنا يصبّركم"، لكن لا أحد يملك عزاءً يُسكّن لوعة القلب حين يفقد روحًا كانت له ملاذًا. لا عزاء يُضاهي حجم الغياب، ولا كلمات تُجبر صدعًا صنعه الموت.
أتجوّل في بيتك كمن يُفتّش عن الأمان، كأنك ستخرج من إحدى الغرف مبتسمًا، حاملاً دعاءك المعتاد، أو نكتة خفيفة الظل تخفف وطأة يوم ثقيل، ما زالت ضحكتك معلقة على الجدران، ورائحة طيبتك تملأ المكان.

كم كنا نلوذ بك، نختبئ خلفك من تعب الحياة، نطلب نصيحتك، نرتاح لقربك، نستند إلى حكمتك، ونستمد من كلماتك بصيرة في زمنٍ يعزّ فيه النقاء.
كنتَ لي أكثر من خال، كنتَ مرآةً لنُبل الرجال، وكتابًا مفتوحًا في الأخلاق والمروءة، لم تكن تغيب عن أحد، ولم تعرف طريقًا إلى قلبك ضغينة أو كراهية، كنتَ رجلاً حين تنطق يصدقك الجميع، وحين تسكت تُفهَم نيتك قبل كلامك.
كنتَ تجبر الخواطر كأنها عبادة، وتمنح الناس من وقتك واهتمامك دون أن تنتظر شكرًا أو عوضًا. كنت من أولئك القلائل الذين تمر بجوارهم فتنحني الحياة احترامًا لصدقهم، وتبتسم السماء لأثرهم الطيب.
أين تلك اليد التي كانت تربت على كتفي حين تضيق الدنيا؟ أين صوتك الذي كان يسبق دعواتك لنا في كل صباح ومساء؟
كنت تقول لي: "لا تبكِ إلا حين يأخذ الله أمانتي"، وها هو قد أخذ أمانته، وها هي دموعي لا تُكفكف، ولا أعرف كيف أودّع من كان لي بيتًا وصوتًا وأمانًا.
لم يخطر ببالي يومًا أني سأكتب عنك بصيغة الغائب، فأنت لم تغب عن وجداننا، ولن تغيب عن دعائنا وذكرياتنا، بل ستبقى حيًّا فينا، كما تبقى الأرواح النقية التي لا تموت.
وداعًا يا صاحب القلب الذي لا يشبهه قلب، يا من علمتنا أن الرجولة ليست قسوة، بل رحمة، وأن الكرامة ليست غطرسة، بل تواضع، وأن العطاء الحقيقي لا يُشهر، بل يُغرس في الصمت.
وداعًا خالي الحبيب، وداعًا يا صاحب الخلق العظيم واللسان الطيب، يا من كنتَ الأُلفة في غيابها، والسند في انكسارنا، والبسمة في حزننا.
رحمك الله وطيّب ثراك، وجعل مثواك في الفردوس الأعلى، كما كنت في دنياك فردوسًا لمن عرفك.
ستبقى في القلب، نبضًا لا يخبو، وسيرة لا تُنسى، واسمًا نردده كلما اشتقنا للطمأنينة.
اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، واجعل دعاءنا له رحمة متجددة، تواسي روحه كما كان يواسي أرواحنا في الحياة.