
الحب الحقيقي ليس عاطفةً عابرة، ولا رغبةً طارئة، ولا علاقةً تُنسج بخيوط المصلحة وتُقطع عند أول خلاف، بل هو نور يتنزل في القلوب الصادقة، يسري فيها كما يسري الدم في العروق، فيحييها ويهذبها ويطهّرها من كل شائبة.
ذاك هو الحب في الله، ولله، الحب النقي الذي لا يُبنى على جمالٍ زائل، أو مالٍ فانٍ، أو قربٍ مؤقت، بل يُبنى على الإيمان، ويثمر في ظل رضا الله، ويمتد أثره من الدنيا إلى الجنة.

في زمن العلاقات المتسارعة، والمصالح المتبادلة، والقلوب المتعبة، نحتاج إلى هذا الحب الذي لا يخذل ولا يبتز ولا ينكسر.
الحب في الله ولله، حين تحب شخصًا لا لشيء إلا لأنه يذكّرك بالله، لأنه من أهل الطاعة، لأنك ترى في وجهه أثر السجود، وفي صوته صدق النية، وفي فعله خشية الله.
ذاك الحب الذي لا يتغير إن تغيّر الزمان، ولا يذبل إن طال الغياب، لأنه لا يتغذّى على القُرب، بل على النية الخالصة، وعلى صفاء القلب.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..." (رواه البخاري ومسلم).
هنا يرسم لنا رسول الله ملامح الحب الصافي، الحب الذي يُثمر إيمانًا، ويمنح القلب طعمًا مختلفًا للحياة.
وفي الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ"، فيا له من حبٍ يمنحك محبة الله، ويضعك في كنفه، ويظلك بظله يوم لا ظل إلا ظله.
تاريخ الصحابة والسلف ملئ بأمثلة هذا الحب الخالد، فهذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكن يحب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان صديقه، بل لأنه كان رسول الله، حبيب الله، فأنفق ماله ووقته ونفسه في سبيل دعوته، في حبٍ لا يُقاس.
والمهاجرون والأنصار أحبوا بعضهم لا لصلة رحم، ولا لتبادل مصالح، بل لأن الإيمان جمعهم، والحب في الله ربط بينهم، فكانوا كما قال الله تعالى: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾.
وكانوا يتباذلون المال، والسكن، والطمأنينة، لأنهم أحبّوا الله فصاروا يحبّون من يحبّه الله.

وعند أهل التصوف، ترتقي المحبة إلى مقام العشق الإلهي، مقام لا يدركه إلا من ذاق، ولا يعبّر عنه إلا من سلك.
تقول السيدة رابعة العدوية في مناجاتها: "اللهم إن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك حبًا لك فلا تحرمني من رؤيتك"، ذلك هو الحب الحر، الذي لا يطلب مقابلًا، ولا يسأل شيئًا، فقط يطلب الله.
وهذا هو الجنيد البغدادي حيث يقول: "الحب هو أن تموت نفسك وتحيا بمحبوبك"، أي أن تفنى إرادتك في إرادته، وتذوب أناك في وجهه، فلا يبقى في القلب سواه.
هذا الحب، حين يسكن القلوب، يجعلها أنقى، ويصنع من الفرد إنسانًا رحيمًا، يُسامح، ويُبادر، ويغفر، لأنه لا يتعامل مع الناس من أجلهم، بل من أجل الله.
يدعو لأخيه في الغيب، يفرح لنجاحه، ويحزن لألمه، ويسأل الله أن يُثبّته، لأنه يحبه في الله.
وإذا فترت العلاقة، أو بعدت المسافة، لا يحمل في قلبه حقدًا ولا ضغينة، لأن المحبة الخالصة لا تموت، وإن غابت ملامحها.
الحب في الله يُعيد إلى العلاقات معناها، ويُربّي في النفوس الطمأنينة، ويُطهّر المجتمعات من الأنانية والحقد والصراع.
وحين يُصبح هذا الحب أساسًا لعلاقاتنا، لن نحتاج إلى أقنعة، ولا إلى تزييف، بل سنعيش بصدق، ونحب بصدق، ونتسامح بصدق.
فيا من تبحث عن الحب، لا تبحث عنه في الوجوه الجميلة، ولا في الكلام العذب، بل ابحث عنه في من يُقرّبك من الله، من يدعوك إلى الخير، من تزداد معه إيمانًا، وتستشعر قرب الله في صحبته.
فإن وجدت هذا الحب، فتمسّك به، وادعُ الله أن يديمه، وكن أهلًا له، لأنه طريق إلى الجنة، لأنه ببساطة... حب لا يموت.
د.أماني اليثي
داعية إسلامية