في زمن تكثر فيه التساؤلات، وتتجدد فيه الدعوات لفهم أعمق لتراثنا القرآني، يبرز سؤال جوهري بين طلاب العلم والباحثين: هل كانت تسمية سور القرآن الكريم وترتيبها في المصحف توقيفًا من النبي صلى الله عليه وسلم، أم أن ذلك تم باجتهاد الصحابة الكرام بعد وفاته؟
سؤال لا يخص شكل المصحف فحسب، بل يرتبط بأصل التلقي وحفظ الوحي واتباع السنة النبوية، وهو ما يستدعي إعادة القراءة في ضوء النصوص الصحيحة وأقوال الأئمة المعتبرين.
التسمية.. وحي أم اجتهاد؟
تدل الروايات الصحيحة على أن أسماء سور القرآن الكريم كانت معروفة ومشهورة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن وليدة اجتهاد الصحابة بعد وفاته.
فقد ورد في صحيح مسلم والسنن والمسانيد أن النبي كان يذكر أسماء السور صراحة، ويوجه كتبة الوحي إلى وضع الآيات في مواضع محددة، كما في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في قصة سورتي الأنفال والتوبة، عندما قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء يدعو أحد من كتّابه، فيقول له: ضع هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا..."
كما جاءت أحاديث كثيرة على لسانه الشريف يذكر فيها أسماء السور بالاسم، مثل قوله: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران"، وقوله في فضل سورة الكهف، وسورة يس، وسورة الملك، وغيرها، ما يدل على أن التسمية توقيفية، أي ثبتت بالنص لا بالاجتهاد.
وقد نص على ذلك الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، قائلاً: "ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار" وهو ما يرجحه أيضًا جمهور أهل العلم والباحثين.

الترتيب.. خلاف لفظي أم مسألة اجتهاد؟
أما ترتيب السور في المصحف، فموضع خلاف بين أهل العلم، حيث يرى جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك، أن الترتيب اجتهادي، قام به الصحابة بناءً على سماعهم لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم المتكررة للسور في ترتيب معين، وليس بنص مباشر. قال الإمام مالك: "إنما ألّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم."
بينما ذهب آخرون، منهم ابن الأنباري وابن عطية والكرماني، إلى أن الترتيب توقيفي أيضًا، تم بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، مستشهدين بما ورد عن جبريل عليه السلام أنه كان يوقف النبي على مواضع السور والآيات عند نزولها، وأنه عارضه القرآن في آخر رمضان مرتين، في عرضة أخيرة نُسخت عنها المصاحف لاحقًا.
قال ابن الأنباري: "اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن."
ومن الأدلة القوية أيضًا حديث أوس بن أبي أوس الثقفي، أن النبي قال: "طرأ عليّ حزبي من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه."
فسأله الصحابة كيف كان النبي يحزب القرآن؟ فذكروا ترتيبًا يدل على معرفة السور وتتابعها في زمنه، ومنها:
البقرة وآل عمران والنساء، ثم المائدة والأنعام والأعراف، وهكذا حتى حزب المفصل من سورة "ق" إلى آخر القرآن، مما يُظهر أن هناك ترتيبًا مألوفًا ومعتمدًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة الشرعية والعلمية
بعد تأمل الروايات والنصوص وأقوال المحققين من العلماء، يمكن تلخيص الرأي الراجح في النقاط الآتية:
أسماء سور القرآن الكريم توقيفية، ثبتت من النبي صلى الله عليه وسلم نصًا وتعليمًا، وليست اجتهادًا من الصحابة.
ترتيب السور فيه خلاف معتبر، إلا أن جمهور العلماء يرون أنه اجتهادي مستند إلى فعل النبي وسماعه، بينما يرى فريق آخر أنه توقيفي بالكامل، وأن الصحابة نسقوا المصحف وفق ما سمعوه من تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيه جبريل عليه السلام.
الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي في جوهره، كما قال الزركشي في "البرهان في علوم القرآن"، لأن الجميع متفقون على أن الصحابة لم يرتبوا المصحف من تلقاء أنفسهم، بل فعلوا ذلك استنادًا إلى ما كانوا يسمعونه ويشاهدونه من النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه المسألة تُظهر عظمة الوحي الرباني، ودقة تدوين القرآن، وتفاني الصحابة في نقله، مما يُبطل كل مزاعم التحريف أو العبث بالقرآن، ويُرسّخ الطمأنينة في قلوب المؤمنين أن هذا القرآن هو كما أنزله الله، محفوظ الترتيب واللفظ، بعناية السماء، قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} \[الحجر: 9].