في كل قارة، وعلى كل أرض، ستجد مصريًا يحمل الوطن في قلبه وإن طال الغياب، وجوههم في الغربة تحمل ملامح مصر، ولهجتهم فيها دفء النيل، وعيونهم لا تغفل عن أخبار بلدهم مهما تباعدت المسافات.
إنهم المصريون في الخارج، ذلك الامتداد الطبيعي لمصر في العالم، وجسرها الإنساني والاقتصادي والدبلوماسي مع الحضارات الأخرى.
وإذا كان الوطن يُقاس بأبنائه، فإن مصر تمتد وتتسع بعدد من غادروها بحثًا عن فرصة، أو حلم، أو مستقبل، لكنهم لم يغادروها يومًا من وجدانهم.
المصريون المهاجرون بالخارج قوة لا يستهان بها
وفقًا لآخر إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد المصريين بالخارج تجاوز 11.08 مليون مواطن حتى نهاية عام 2022، أكثر من 7 ملايين منهم يعيشون في الدول العربية، ويتصدر المملكة العربية السعودية المشهد بأكبر عدد من المصريين، يليها الأردن والإمارات والكويت.

في حين يتوزع نحو 1.6 مليون مصري في الدول الأوروبية، وتحتل إيطاليا المرتبة الأولى بين الدول الأوروبية من حيث عدد الجالية المصرية، بعدد يُقدر بحوالي 143 ألف مصري، تليها بريطانيا بنحو 39 ألفًا، ثم هولندا بما يزيد عن 27 ألفًا. أما في أمريكا الشمالية، فتُشير التقديرات إلى وجود ما يزيد عن 850 ألف مصري، بين الولايات المتحدة وكندا.
لكن قيمة المصريين بالخارج لا تُقاس فقط بعددهم، بل بأثرهم، فلقد تحوّلوا إلى رافد اقتصادي حيوي، يسهم في دعم الاقتصاد الوطني، وتعزيز احتياطي النقد الأجنبي، وتقليل عجز الحساب الجاري.
في عام 2024، بلغت تحويلات المصريين بالخارج نحو 29.6 مليار دولار، بزيادة تجاوزت 51% مقارنة بالعام السابق، وهي نسبة تعكس ليس فقط قوة ارتباط هؤلاء بوطنهم، بل أيضًا ثقتهم في أن أموالهم تسهم في استقرار اقتصادي لمصر.
والأرقام تقول إن مصر تحتل اليوم المرتبة السابعة عالميًا في قائمة الدول الأكثر تلقيًا لتحويلات العاملين بالخارج، لتصبح هذه التحويلات ثاني أكبر مصدر للنقد الأجنبي بعد الصادرات.

هذه التحويلات لم تكن مجرد دعم عائلي للأسر، بل أصبحت جزءًا من الاستراتيجية الاقتصادية للدولة، فبفضلها، ارتفع الاحتياطي النقدي إلى أكثر من 48 مليار دولار في منتصف 2025، وهو رقم يعكس تحسنًا كبيرًا في القدرة التمويلية للدولة، وساهم في تقوية موقف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية.
لكن الأثر الحقيقي للمصريين بالخارج لا يُقاس بالدولارات فقط، بل بالعقول والطاقات والخبرات في الجامعات العالمية الكبرى، في المؤسسات البحثية، في كبرى الشركات العالمية، يعمل آلاف الخبراء المصريين الذين رفعوا اسم بلادهم في محافل دولية، وأثبتوا أن المصري حين تتاح له الفرصة، يُبدع ويتميّز.
وقد بدأت الدولة، في السنوات الأخيرة، في تفعيل أدوات الربط المؤسسي مع هؤلاء من خلال مبادرات مثل "استدامة وتواصل"، و"مؤتمرات الكيانات المصرية بالخارج"، و"نُسِجت بأيدٍ مصرية"، التي تهدف إلى دمج الكفاءات المصرية بالخارج في مسارات التنمية الوطنية.
وتحاول مصر أيضًا أن تُقدّم لهم تسهيلات تدعم ارتباطهم بالوطن، بدءًا من مبادرات إعفاء السيارات من الجمارك، مرورًا بإتاحة الاستثمار في مشروعات وطنية بعوائد مجزية، وليس انتهاءً بتيسير الحصول على الخدمات القنصلية، وتطوير تطبيقات إلكترونية للتواصل المباشر مع الجاليات.
رغم ذلك، لا تزال هناك تحديات قائمة، فعدد من المصريين بالخارج يعاني من غموض الإجراءات الإدارية، أو عدم وجود تمثيل دبلوماسي فعّال في بعض الدول، أو غياب الدعم القانوني في حالات النزاع أو الظلم، خصوصًا في مناطق النزاع أو الدول الأوروبية التي تزداد فيها مظاهر التمييز الثقافي.
وهناك حاجة متزايدة لتعزيز دور السفارات والقنصليات في لعب دور أكبر في الحماية والدعم، والتواصل مع الجاليات بعيدًا عن النمط البروتوكولي الجامد.
على الجانب الآخر، فإن المصريين بالخارج يُشاركون بفاعلية في الحياة السياسية من خلال الانتخابات، بل إن عددًا كبيرًا منهم يعبّر عن آرائه بوعي في القضايا العامة عبر منصات التواصل، ويتفاعل مع السياسات الداخلية بشغف لا يقل عن المقيمين في الداخل.

المصريون في الخارج ليسوا مجرد عمالة أو جالية، بل امتداد للهوية الوطنية، وسفراء حقيقيون لمصر في كل مكان، يحملون ثقافتها، وينقلون صورتها، ويشكّلون جزءًا من قوتها الناعمة في العالم.
إنهم اختاروا أن يكونوا جسورًا لا جدرانًا، وأن يُثبتوا أن الوطن لا يُختصر في موقع جغرافي، بل في انتماء حيّ نابض، لا يغيب حتى وإن ابتعدت المسافات.
وحدها مصر، هي الوطن الذي لا تغيب شمسه مهما غربت الأجساد، لأنها تشرق في الأرواح كل يوم.
شيرين صفوت - إيطاليا