الإثنين 01 سبتمبر 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

في لحظة امتزج فيها الفرح بالحسرة، خرجت دفعة جديدة من الغارمات من خلف الأسوار، واحتضنتهن الحرية مع صباح الاحتفال بثورة 30 يونيو، وكأن الوطن أراد أن يُعلن أن الثورة لا تُقاس فقط بتغير الأنظمة، بل بمدى انتصارها للفقراء والمهمشين.
خرجت الأمهات والبنات من السجون، بعضهن لم يصدقن أنهن بتن حرّات، يختبرن ضوء الشمس دون قضبان، وكأن الوطن يُعيد لهن شيئًا من كرامتهن المسلوبة.

حكايات خلف القضبان: نساء سقطن في فخ الفقر

وراء كل امرأة غارمة حكاية تفيض إنسانية وألمًا: أم اقترضت لتُزوّج ابنتها، وأخرى حملت على عاتقها مسؤولية علاج والد مريض، وثالثة أرادت شراء “جهاز عروس” لتكمل فرحة ابنتها… فكانت النتيجة إيصال أمانة، ثم تحقيق، ثم حبس لا يرحم. هؤلاء النساء لم يكنّ مجرمات، بل ضحايا لواقع اقتصادي قاسٍ وثقافة اجتماعية تُكبّل الفقير وتخنقه بدلًا من أن تنصفه.

الإفراج عن دفعة جديدة من الغارمات في الذكرى الحادية عشرة لثورة 30 يونيو لم يكن محض مصادفة، بل رسالة وطنية وإنسانية واضحة: أن العدالة الاجتماعية لا تكتمل إلا بإعادة النظر في مصير من سقطن تحت عجلة الفقر دون حماية قانونية. المبادرة الرئاسية التي انطلقت تحت شعار “مصر بلا غارمات” تحاول أن تعيد رسم العلاقة بين الدولة والمواطن، لا سيما المرأة المعيلة التي دفعت ثمن التضحية دون أن تتلقى المقابل.

إطار قانوني مربك: هل يعاقب القانون الفقر؟

رغم تعدد حالات الغارمات، يبقى المشهد القانوني مقلقًا. فالقانون المصري لا يفرق في كثير من الأحيان بين الدائنات الجنائية والمدنية، وهو ما يسمح بإدخال نساء بريئات في دوامة الحبس لمجرد تعثر في السداد، لا لاحتيال أو نية سيئة. إيصال الأمانة، الذي يُفترض أن يكون وسيلة لحفظ الحقوق، تحوّل إلى أداة قانونية لسجن الآلاف من النساء، وكأن القانون يعاقب الفقر بدلًا من أن يحمي الضعفاء.

المرأة الغارمة ليست فاشلة ولا مجرمة، بل ضحية لغياب نظم الحماية، ولثقافة مجتمعية ترسّخ ضغوطًا مضاعفة على المرأة، وتجبرها على اللجوء إلى القروض تحت شعار: “أمك مش أقل من غيرها”. في أغلب الأحيان، تكون هذه القروض نتيجة لإحساس المرأة بالواجب تجاه أسرتها، فتقع وحدها في دائرة الاستدانة، ثم العقوبة، بينما يغيب الضامن الاقتصادي والتشريعي العادل.

مبادرات بلافتة إنسانية: من يسدد ديون الغارمات؟

ظهرت خلال السنوات الأخيرة مبادرات عدة تهدف لتسديد ديون الغارمات، أبرزها “صندوق تحيا مصر” الذي أنقذ آلاف الحالات، إلى جانب جهود منظمات المجتمع المدني، ومبادرات رجال الأعمال والمتبرعين. لكن السؤال الذي يبقى: هل الحل في السداد فقط، أم في معالجة الأسباب التي تؤدي إلى تكرار الأزمة؟ ما لم يتحول الجهد إلى منظومة وقائية تشريعية واجتماعية، فإن الأزمة ستعود في كل مناسبة.

حان الوقت لإعادة النظر في النصوص القانونية التي تسمح بحبس النساء في قضايا الديون البسيطة. هناك حاجة ماسة إلى تشريع عصري ينص على بدائل عقابية غير سالبة للحرية، وينظم آليات التمويل متناهي الصغر دون أن يُترك المواطن البسيط فريسة لتجار الإيصالات والربا المقنع. التعديل القانوني ليس رفاهية، بل استحقاق اجتماعي يليق بدولة ترفع شعار العدالة الاجتماعية.

ما بعد الخروج: من الاحتواء إلى التمكين

الإفراج عن الغارمات لا يجب أن يُختزل في مشهد إنساني وقتي أو مادة إعلامية للاحتفاء. ما بعد الخروج هو المرحلة الأهم: هل تجد المرأة العائدة من السجن فرصة للدمج المجتمعي؟ هل يتوفر لها تدريب مهني أو دعم اقتصادي يعيد إليها دورها؟ هل تمتلك الأدوات لتبدأ من جديد؟ إن لم تُستكمل مبادرات العفو ببرامج تأهيل وتمكين، فسنعود إلى نقطة البداية مرة أخرى.

ختامًا: صوت الثورة لا بد أن يصل إلى النساء المهمشات

ثورة 30 يونيو رفعت شعارات استعادة الكرامة وتحقيق العدالة، وهذه القيم يجب أن تُترجم إلى سياسات حقيقية تصل إلى قاع المجتمع، حيث الغارمات يكابدن بصمت. الإفراج عنهن خطوة مشكورة، لكنها لا تكفي ما لم يتغير النظام القانوني والاجتماعي الذي أنتج مآسيهن. ففي النهاية، ليست الحرية فقط الخروج من السجن، بل القدرة على ألا تعود إليه أبدًا.

سامي حسني 

تم نسخ الرابط