
في مشهد أعاد إلى الأذهان ثورات الشعوب الكبرى، خرج ملايين المصريين يوم 30 يونيو 2013 إلى الشوارع والساحات، لا يطالبون بزيادة رواتب أو إصلاحات جزئية، بل يهتفون بصوت واحد: "ارحل".
كانت الثورة امتدادًا لحلم لم يكتمل في يناير 2011، حين ظن المصريون أنهم سلموا مفاتيح دولتهم لمن يملك مشروعًا وطنيًا، فإذا بهم يواجهون مشروعًا إقصائيًا احتكاريًا، استغل الديمقراطية للوصول إلى الحكم، ثم عمل على تقويض مؤسساتها.
لم تكن ثورة يونيو مجرد حدث سياسي عابر، بل نقطة تحول حاسمة في تاريخ مصر الحديث، أزاحت حكمًا استمر لعام واحد، لكنه كان كافيًا لكشف نوايا الإخوان المسلمين في التمكين للذات على حساب الدولة، والسيطرة على مفاصل المؤسسات لاستخدامها في مشروع عابر للحدود.
وقد أثبتت وثائق وتحقيقات لاحقة حجم تغلغل الجماعة داخل أجهزة الدولة، وتخطيطها لإعادة هيكلتها بما يخدم أهدافًا عقائدية لا وطنية.
المشهد في يونيو كان استثنائيًا على كل المستويات. قُدّرت أعداد المشاركين في التظاهرات بأكثر من 30 مليون مواطن، في أكبر حشد شعبي عرفته مصر في تاريخها، بل اعتُبر من أكبر التجمعات الثورية في العالم، وفقًا لتقديرات مراكز بحثية دولية مثل مؤسسة كارنيغي ومجلة "تايم".
امتلأت الميادين من الإسكندرية إلى أسوان، وارتفعت أعلام مصر فوق العمارات والسيارات، وتوحدت الهتافات بلا شعارات حزبية، في وحدة شعبية نادرة لم تشهدها البلاد منذ عقود.
ولأن الدولة المصرية كادت أن تنهار نتيجة سياسات عام كامل من حكم الإخوان، كانت الاستجابة الحاسمة من الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن في الثالث من يوليو انحياز المؤسسة العسكرية إلى الشعب، حفاظًا على السلم الأهلي ووحدة الدولة، وحقنًا لدماء المصريين.
هذا التدخل لم يكن انقلابًا كما حاول البعض ترويجه، بل تفويضًا شعبيًا موثقًا بالصوت والصورة، سبقه تفويض جماهيري غير مسبوق في 26 يوليو لمواجهة الإرهاب المحتمل.
لقد مثلت ثورة يونيو رفضًا صريحًا لتديين السياسة، وتحويل الدين إلى أداة للاستغلال السياسي، ومحاولة فرض نمط واحد للفكر والمعتقد في دولة متعددة ثقافيًا ودينيًا. كما كانت رفضًا لسياسات خارجية هشة، أدت إلى تراجع مكانة مصر إقليميًا، وخضوع قراراتها لمحاور إقليمية معروفة.
اقتصاديًا، كانت البلاد على حافة الإفلاس. في منتصف 2013، بلغ احتياطي النقد الأجنبي 14.9 مليار دولار فقط، وهو أقل من نصف ما كان عليه قبل ثورة يناير.
وتراجعت قيمة الجنيه إلى مستويات غير مسبوقة، بينما ارتفعت معدلات البطالة والفقر، وبلغ العجز في الموازنة أكثر من 13% من الناتج المحلي، وسط تدهور خطير في الخدمات الأساسية وغياب تام للرؤية الاقتصادية.
بعد الثورة، بدأ مسار جديد لإعادة بناء الدولة من الداخل، عبر استعادة مؤسساتها، وتثبيت أركانها، وطرح خريطة طريق واضحة تضمنت تعديل الدستور، وانتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة، وإطلاق مشروعات قومية عملاقة. فعادت الدولة لتحتل مكانتها في محيطها العربي والإفريقي، وبدأ الاقتصاد المصري يتعافى تدريجيًا، ليصل حجم الاحتياطي النقدي إلى أكثر من 45 مليار دولار بحلول عام 2019، وانخفضت معدلات البطالة إلى نحو 7.2%، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
ومع كل ذكرى لثورة 30 يونيو، تتجدد الأسئلة حول ما تحقق، وما لم يتحقق بعد. صحيح أن الطريق ما زال طويلاً، والتحديات باقية، خصوصًا في ملفات الحريات العامة، والإصلاح السياسي، وتحسين جودة الحياة، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن مصر ما بعد يونيو ليست هي مصر التي كانت قبلها. إنها دولة استعادت هويتها، وقررت ألا تسلم قرارها مجددًا لغير أبنائها، مهما كانت الضغوط أو الإغراءات.
لقد أثبتت هذه الثورة أن الشعوب لا تُخدع طويلًا، وأن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط، بل مسؤولية أخلاقية ووطنية. وأن المليونيات التي ملأت الميادين كانت شهادة شعب كتب بقدميه على الأرض، أنه لا يقبل العودة إلى الوراء، ولا التسليم لفكر يحتكر الدين والوطن والسلطة.
تلك كانت ثورة المصريين في 30 يونيو، ثورة لا تزال آثارها ممتدة في كل حجر يُبنى، وكل مشروع يُنجز، وكل مؤسسة تستعيد قوتها، وكل قرار يُتخذ باسم الوطن.
أحلام عبد الرحمن