مع انطلاق موسم الانتخابات النيابية في مصر وبدء ماراثون انتخابات مجلس الشيوخ، يتجدّد مشهد قديم مألوف من الحملات المليئة بالشعارات الرنانة والوعود المستحيلة.
لم يخلُ هذا المشهد من موجات الكذب السياسي، التي اتخذها بعض المرشحين وأنصارهم وسيلة لكسب أصوات الناخبين، عبر تضليل العقول، واختلاق إنجازات وهمية، وتقديم أنفسهم باعتبارهم منقذي الأمة وممثلي “الشعب الحقيقي”، وهم في الواقع يفتقرون إلى الرصيد المهني والوطني اللازم.
لم يكن الكذب في الخطاب الانتخابي مجرد وسيلة دعائية، بل تحوّل في بعض الدوائر إلى استراتيجية مقصودة، تُمارَس تحت غطاء إعلامي أو قبلي أو حزبي، وسط ضعف الوعي الشعبي، وانعدام المحاسبة السياسية.
فتارة يُعلن مرشح عن مشاريع خدمية كبرى لا تدخل ضمن اختصاصاته التشريعية، وتارة أخرى يروّج أنصاره شائعات كاذبة عن منافسيه لتشويههم، وكأن السياسة لا تعني سوى الكذب، والانتخابات ليست سوى سباق في تزوير الوعي.
الكذب السياسي من منظور شرعي: جريمة أخلاقية وخيانة دينية
من زاوية شرعية، الكذب السياسي يُعد خيانة جسيمة لا تُبررها أهداف ولا تحميها نوايا. الإسلام يحرّم الكذب تحريمًا قاطعًا، ويعتبره من علامات النفاق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ من كن فيه كان منافقًا، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” [رواه مسلم].
وفي الانتخابات، الكذب يمثل جميع هذه العلامات: وعودٌ كاذبة، أمانة خائنة، وخطاب مضلِّل.
الكذب الانتخابي ليس مجرد زلة لسان، بل هو فعلٌ مقصود يسعى به المرشح لكسب ما لا يستحق، فيخدع الناس ويغتصب أصواتهم بوهم الإنجاز. وهذا يتعارض تمامًا مع مبدأ الشورى في الإسلام، الذي يقوم على الصدق، والعدل، والمصلحة العامة.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]،
وقال أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
فكيف يُنتظر التوفيق ممن يفتتح حملته الانتخابية بسلسلة من الأكاذيب؟
أثر الكذب السياسي على المجتمع والدولة
حين يتحول الكذب إلى لغة سياسية، يُصبح المجتمع ضحية للخطاب المزيّف، وتفقد العملية الانتخابية جوهرها.
المواطن يُضلَّل، والمؤسسة التشريعية تُفرَّغ من قيمتها، ويتسرب الشك في كل وعود الإصلاح والتنمية.
وتصبح الممارسة الديمقراطية، التي يُفترض أن تقوم على الاختيار الحر الواعي، مجرد مسرحية متكررة تفقد قيمتها وجدواها.
الكذب في السياسة لا يؤثر على الأفراد فقط، بل يُنتج نظامًا كاملًا من التزييف، ويجعل الكفاءة والحق في تراجع، بينما تتقدم الرداءة والباطل على أكتاف الأكاذيب.
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى أن “العدل أساس الملك”، والكذب نقيض العدل، ومن اعتمد على الكذب في وصوله للسلطة، فمصيره أن يترنح تحت ثقل زيفه، ويجني المجتمع كوارث قراراته.
المسؤولية الشرعية في مواجهة الكذب الانتخابي
الشرع لا يكتفي بالتحذير من الكذب، بل يُحمّل الأمة مسؤولية النصح والمحاسبة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم” [رواه مسلم].
وعليه، فسكوت العلماء والإعلاميين والنخب عن الكذب السياسي يُعدّ تقصيرًا في أداء الأمانة، لأن الصمت عن الباطل يعطيه شرعية، ويُمكّن للكاذبين من مواصلة العبث بالمجتمع.
ينبغي أيضًا تعزيز الوعي السياسي والديني لدى المواطن، حتى يُدرك أن الكذاب لا يصلح أن يكون ممثلًا للأمة، ولا يُؤتمن على مصالحها، وأن الشرع لا يعرف مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” مهما كانت “النية حسنة”.
إن الكذب السياسي، خاصة في موسم الانتخابات، يكشف عن خلل أخلاقي ومنهجي في طريقة إدارة الشأن العام. وهو ليس مجرد خطيئة شخصية، بل جريمة مجتمعية تهدد سلامة العملية الديمقراطية وشرعية مؤسسات الدولة.
والإسلام لا يقبل أن تُبنى السلطة على الخداع، ولا أن تُخدَم المصالح العامة بالكذب والتضليل.
إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ إلا من الصدق، والنهضة لا تقوم إلا على الأمانة، ومن يخون الكلمة اليوم، سيخون الأمة غدًا.
د. أماني الليثي - داعية إسلامية