في لغة القرآن الكريم، تتكرر ألفاظ تحمل أبعادًا شرعية وعقائدية عميقة، ومن بين هذه الألفاظ يبرز مصطلحان لطالما أثارا تساؤلات المفسرين والباحثين: الرجس والرجز.
ورغم التقارب اللفظي بينهما، فإن لكل منهما حمولة معنوية تختلف دلالاتها بحسب السياق القرآني والاستعمال الشرعي.
الرجز.. عذاب ووسوسة ومعصية
يميل جمهور من علماء اللغة والتفسير إلى أن الرجز يدل على العذاب الشديد، وقد يطلق كذلك على وسوسة الشيطان وما يصاحبها من معاصٍ وآثام. ومن أبرز الآيات التي تبرز هذا المعنى قوله تعالى: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134]، حيث طلب فرعون وقومه رفع العذاب الذي سماه الله “رجزًا”.
وفي قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 162]، تأكيد على ارتباط الرجز بعقوبة إلهية تنزل جزاءً على الظلم والطغيان.
أما في سياق آخر، فيظهر الرجز بمعنى الوسوسة والنجاسة المعنوية، كما في قوله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11]، في إشارة إلى طهارة النفس من أثر الشيطان وأثر وساوسه التي تعكر صفاء القلب.
وقد فسّر الكسائي وغيره من أهل اللغة الرجز بأنه يشمل العذاب، النجاسة، والمعصية، مما يدل على أن معناه يتسع وفق السياق والدلالة الشرعية التي تحكمه.
الرجس.. كل مستقذر في الشرع والعقل
أما الرجس، فهو في الغالب مرتبط بكل ما هو نجس وقذر، سواء حسًّا أو معنًى. فهو يشير إلى ما تنفر منه النفوس السليمة، ويأباه الشرع المطهِّر. ومن أوضح الأدلة على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين نهى عن الاستنجاء بالروثة، وعلل ذلك بقوله: “إنها رجس”، أي مستقذرة لا تليق بطهارة الإنسان.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، حيث وصف الله ما ذُبح لغير اسمه بأنه رجس، أي ملوث بالشرك والخبث.
وتذهب معاجم اللغة كـ”مختار الصحاح” و”لسان العرب” و”النهاية” لابن الأثير، إلى أن الرجس يدل على كل ما يُستقذر في الشريعة، من قول أو فعل أو اعتقاد، ويشمل النجاسات الحسية والمعنوية، من أرجاس العقائد، إلى نجاسات الأفعال.
خلاف لغوي.. أم دلالي؟
وقد أثير خلاف بين أهل اللغة: هل “الرجس” و”الرجز” كلمتان مختلفتان في الأصل والمعنى، أم أن بينهما تبادلًا صوتيًّا فقط كما يحصل في بعض الحروف الصفيرية، مثل “الأسد” و”الأزد”، و”الصراط” و”الزراط”؟
بعض اللغويين رأى أنهما مترادفان يعبّران عن معنى القذر، بينما رأى آخرون أن كل لفظ يحمل دلالة خاصة تختلف عن الآخر في السياق القرآني والشرعي.
خلاصة القول: يتضح من خلال تتبع الآيات والأحاديث والتفاسير، أن الفرق بين الرجز والرجس ليس مجرد فروق لغوية، بل هو تباين دلالي له أثر شرعي، حيث يحمل الرجز معنى العذاب أو الوسوسة الشيطانية أو المعصية، بينما يشير الرجس إلى النجاسة والقذر وما يستقذر من عمل أو قول.
وهذا التمييز يعكس عمق اللغة القرآنية التي تُحمّل الألفاظ معاني دقيقة ترتبط بالعقيدة والسلوك، وتدل على أن الكلمة في خطاب الله ليست مجرد أداة تعبير، بل مفتاح لفهم جوهر الرسالة.
أحمد الشحاري