مع اقتراب استحقاق انتخابات مجلس الشيوخ، تتعالى – كالعادة – بعض الأصوات النشاز التي تهاجم المشاركة الديمقراطية وتُحرّم الانتخابات النيابية والبرلمانية، مدعية أنها "بدعة" و"مخالفة للشريعة الإسلامية".
وأن العمل السياسي والمشاركة التشريعية نوع من التغريب أو المحدثات والمبتدعات في الشريعة الإسلامية.!
والحقيقة أنها مجرد مزاعم واهية وأكاذيب مقصودة لا تصمد أمام نور الشريعة الإسلامية، ولا تقوم لها قائمة في ميزان الفقه الإسلامي الرصين.
فالقول بتحريم الانتخابات واعتبارها بدعة هو كلام عبثي لا يمت إلى الشريعة بصلة، بل يتصادم مع أصولها ومقاصدها الكبرى، التي أقرت مبدأ الشورى، وأوجبت النصيحة، ودعت إلى اختيار الأصلح، وتحقيق المصلحة العامة، والتصدي للفساد والانحراف عبر الوسائل المشروعة.

الشورى أصلٌ أصيل في نظام الحكم الإسلامي
لقد جاءت نصوص القرآن والسنة مليئة بالتأكيد على مبدأ الشورى، وهو الأصل الذي تُبنى عليه اليوم كل النظم الديمقراطية والمشاركة النيابية، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
- “وأمرهم شورى بينهم” \[الشورى: 38]
- “وشاورهم في الأمر” \[آل عمران: 159]
- “فانظر ماذا ترى” \[يوسف: 41]، وهي آية تتضمن دعوة للاستشارة والاستبصار قبل اتخاذ القرار.
فالشورى ليست ترفًا ولا نافلة، بل هي واجب شرعي وسياسي، تُمارس بأشكال مختلفة بحسب الزمان والمكان.
وإذا كانت في زمن النبوة تتم مباشرة، فإن تعقّد الحياة وتطور الدول أوجب أن تُمارس الشورى عبر مؤسسات تشريعية ومنتخبة، يكون أعضاؤها ممثلين حقيقيين عن الناس، وهذا هو جوهر الانتخابات النيابية الحديثة.
الانتخابات صورة من صور الشهادة في الإسلام
التصويت في الانتخابات ليس أمرًا شكليًا أو دنيويًا فقط، بل هو في ميزان الشرع شهادة يجب أداؤها بالحق، يقول الله تعالى: “وأقيموا الشهادة لله” \[الطلاق: 2]
ويقول أيضاً: “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه” \[البقرة: 283]
ويقول جل في علاه: “كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين” \[النساء: 135]
فصوت الناخب المسلم شهادة أمام الله والناس، لا يجوز التهاون بها، ولا استخدامها لتحقيق مصلحة خاصة أو عصبية أو ولاء مغلوط، بل يجب أن تُمنح لمن يستحق، على أساس الكفاءة والنزاهة والأمانة.

من فقه السياسة الشرعية: اختيار الأصلح وتولي الولايات
قرّر علماء الإسلام، وفي مقدمتهم ابن تيمية، أن الناس إذا وُكّل إليهم أمر اختيار من يتولى شؤونهم، فإنهم مطالبون شرعًا بترشيح الأصلح والأقدر، كما جاء في "الفتاوى الكبرى":
واضاف: "يجب على كل من ولّي أمرًا من أمور المسلمين أن يتقي الله فيمن ولاه، وأن يختار الأصلح، فإن ترك الأصلح وولّى غيره لأجل قرابة أو مصلحة شخصية أو مال، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، وكانت خيانته من أعظم الفجور".
وهذا النص الفقهي الجليل، يكاد يكون صريحًا في إثبات شرعية الاختيار الشعبي، والواجب الشرعي في ترشيح الأصلح، وهو ما يُطبق فعليًا من خلال آلية الاقتراع العام.
الشريعة الإسلامية لا ترفض الديمقراطية.. بل تراقبها وتهذبها
ويرى كبار الفقهاء المعاصرين أن الانتخابات هي تطبيق عملي لمبدأ الشورى، وأن الديمقراطية – إذا خضعت للضوابط الشرعية – ليست نظامًا مرفوضًا، بل وسيلة لإقرار العدل ومحاسبة الحكّام، وتحقيق مصالح الناس، والتصدي للفساد والطغيان.
وقد قال الشيخ محمد الغزالي: "إن الإسلام لا يرفض الديمقراطية، بل يطالب الأمة بالمشاركة، والمحاسبة، ورفض الاستبداد، وعدم السكوت على الظلم، وكل هذه معانٍ تتحقق من خلال الانتخابات النيابية".
أهل الحل والعقد.. صورة تاريخية من صور المجالس التشريعية
يُقرّ الفقه الإسلامي نظام "أهل الحل والعقد"، وهم أهل الرأي والحكمة في الأمة، الذين يُستشارون في القضايا الكبرى، وكان اختيارهم يتم برضا الأمة، وبمعايير الكفاءة والعدالة.
وهذا المفهوم الفقهي يتطابق مع مجالس الشورى والنيابة المعاصرة، بما فيها مجلس الشيوخ، الذي يضطلع بدور استشاري وتشريعي ومراقبي، وبالتالي، فإن انتخاب أعضائه من قِبل الأمة هو تطبيق فعلي لروح الشورى، وليس خروجًا عن الدين.

مشاركة المسلم في انتخابات مجلس الشيوخ واجب شرعي ووطني
في ضوء ما تقدم، فإن مشاركة المسلم في انتخابات مجلس الشيوخ هي من صميم المسؤولية الشرعية والوطنية، فهي صورة من صور الشهادة، وممارسة لحق سياسي وواجب ديني، يُسهم في حفظ النظام، ودعم الاستقرار، وتعزيز الرقابة، وتقديم الأصلح إلى مواقع المسؤولية.
إن العزوف عن المشاركة خيانة للأمانة، وتركٌ لموقع التأثير، وتفريطٌ في الواجب، وقد حذّر الإسلام من السلبية واللامبالاة، ودعا إلى المشاركة في الخير، والأمر بالمعروف، والنصيحة في الشأن العام.
إن الشريعة الإسلامية لا تعارض الانتخابات، بل تحتضنها متى كانت في سبيل الإصلاح وتحقيق المصالح العامة، والانتخابات النيابية، بما فيها انتخابات مجلس الشيوخ، تُعد فرصة حقيقية لكل مواطن ليؤدي دوره في صياغة المستقبل، وبناء مؤسسات رشيدة، واختيار الأصلح لتمثيله في مواقع القرار.
ورسالتي لكل وطني شريف.. فصوتك أمانة، وشهادتك مسؤولية، وبلدك ينتظر منك موقفًا يُرضي الله، ويُسهم في رفعة الوطن، ويحقق الخير لأبناء أمتك.
د. أماني الليثي
داعية إسلامية