في مشهد مروّع هزّ الضمير الإنساني والوجدان الديني، أقدم متطرفون الأسبوع الماضي على تفجير الكنيسة السورية ، في جريمة نكراء تنضح بالكراهية وتعرّي الفكر الظلامي الذي يحاول التسلل باسم الدين، بينما هو في حقيقته أبعد ما يكون عن جوهر الإسلام وروحه السمحاء.
لم تكن تلك الكنيسة مجرد مبنى من حجارة، بل كانت رمزًا لسلام أهله، وصلاتهم، وطمأنينتهم، لكنها تحوّلت بدم بارد إلى ركام، وسقط عشرات الضحايا من الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا يصلّون لربهم بسلام.
ليست هذه الجريمة الأولى التي تطال بيوت العبادة في منطقتنا العربية باسم شعارات زائفة، لكنها تظلّ شاهدًا على اختطاف الدين وتزييف مقاصده، وهو ما يحمّل العلماء والمثقفين ورجال الدين من مختلف الأطياف مسؤولية كشف زيف هذا الفكر، وتصحيح الصورة المغلوطة التي يحاول المتطرفون ترسيخها عن الإسلام.
الإسلام حرم الاعتداء على كنائس النصارى وأموالهم وأعراضهم
ولئن كانت سوريا قد دفعت اليوم ثمنًا باهظًا لتفجير كنيسة بريئة، فإن مصر –بجذورها الإسلامية العميقة وتاريخها في حماية أقباطها وكنائسها– تظلّ النموذج الحضاري الذي يجب استدعاؤه في كل حديث عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
لقد عرفت مصر منذ الفتح الإسلامي نموذجًا فريدًا في التعايش، وسُطرت على أرضها عشرات العهود والمواثيق التي كفلت للأقباط حرية الدين والمعتقد وممارسة شعائرهم، ولا تزال كنائس مصر إلى اليوم شاهدة على عهد طويل من الحماية والرعاية، بدءًا من عهد عمرو بن العاص وحتى العصر الحديث.
إن الاعتداء على الكنائس، في أي زمان ومكان، ليس فقط خروجًا عن القانون، بل هو عدوان صريح على شريعة الإسلام نفسها، التي كرّمت الإنسان، وصانت دور العبادة كافة، وحرّمت الدماء المعصومة.
فالقرآن الكريم واضح في قوله: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" [الحج: 40]، وهو نصّ قرآني جامع يحمي جميع دور العبادة، دون تفرقة بين كنيسة ومسجد.
وقد أكد النبي محمد –صلى الله عليه وسلم على حرمة الاعتداء على أهل الذمة، وذمّ من يروعهم أو يؤذيهم، فقال: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" [رواه البخاري].
هذا الحديث الشريف لا يترك مجالًا للشك في أن العدوان على غير المسلمين هو عدوان على حرمة الإسلام نفسه، وما كان الصحابة يمرّون على الرهبان في الصوامع إلا وتركوا لهم أمنهم وعبادتهم، امتثالًا لوصايا نبيهم وقيم دينهم.
كما شدد الفقهاء في كل المذاهب على أن دماء أهل الذمة وأموالهم وأعراضهم مصونة، بل جعل الإمام الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من كبار العلماء مال الذمي محترمًا كمال المسلم، بل وحرّموا الاعتداء عليه حتى في حال وجود عداوة سياسية، فكيف بمن يعيشون بين المسلمين آمنين، متجاورين، شركاء في الوطن والمصير؟!
إن الجرائم التي تستهدف الكنائس لا تعبّر عن الإسلام، بل تعبّر عن فكر منحرف يحاول اغتصاب النصوص وتشويه المقاصد وقد أدانت المؤسسات الدينية الكبرى هذه الأفعال مرارًا، فقد أكدت دار الإفتاء المصرية أن "الاعتداء على الكنائس حرام شرعًا، ومجافٍ لكل تعاليم الدين الإسلامي الذي دعا إلى العدل والرحمة".
وكذلك شدد الأزهر الشريف في أكثر من بيان أن "المسلم الحقيقي لا يمكن أن يمد يده بالأذى إلى دار عبادة، أو يريق دم إنسان بريء".
وإذا كانت هذه الجرائم تستهدف زرع الفتنة بين شركاء الوطن، فإن مصر بشعبها الواعي، وتاريخها العريق، قادرة على إفشال هذه المؤامرات، وقد قدّمت للعالم نموذجًا في الوحدة الوطنية حين وقف المسلمون يحرسون الكنائس في عيد الميلاد، ووقف المسيحيون إلى جانب المسلمين في المساجد عند الأزمات.
لقد بات لزامًا على الإعلام ورجال الدين والمؤسسات التعليمية أن يواجهوا خطاب الكراهية بحزم، وأن يكشفوا أن حرمة الكنائس ليست أمرًا سياسيًا أو دبلوماسيًا، بل حكمًا شرعيًا واضحًا، وجزءًا من أخلاق الإسلام العظيمة التي لم تفرق يومًا بين الناس على أساس الدين أو العرق.
إن تفجير الكنائس هو جريمة مضاعفة: دينية وأخلاقية وإنسانية وهو فعل مدان في كل الشرائع، ويرفضه العقلاء في كل الأديان وعلى العالم الإسلامي أن يعلن –وبلا تردد– أن من يعتدي على كنيسة إنما يعتدي على حرمة الإسلام نفسه.
وليتذكّر الجميع أن الإسلام بُني على الرحمة، لا على القسوة، وأن النبي محمد –صلى الله عليه وسلم– بُعث "رحمة للعالمين"، لا نقمة عليهم.