الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

في زمن كثرت فيه المنصات وسهلت فيه أدوات العرض والانتشار، ازدادت محاولات التزييف، وتكررت حالات سرقة الأعمال الفنية والفكرية والأدبية، في مشهد خطير لا يعبّر عن خلل فردي فقط، بل عن أزمة قيم تهدد جوهر الإبداع ونزاهة المجتمع.

وقد تفجرت هذه القضية مؤخرًا بعدما أقدمت إحدى الشخصيات على نَسب عمل فني إلى نفسها دون أن تكون صاحبة الجهد أو الإبداع، لتواجه بعد انكشاف الأمر موجةً من الغضب والاستنكار، ثم تخرج باعترافٍ صريح واعتذارٍ علني، تُقر فيه بالخطأ، وتطلب فيه الصفح.

في هذا المقال، نتناول حرمة سرقة الأعمال الفنية في الإسلام، ثم نعرض رؤية الدين في ثقافة الاعتذار والعفو والتسامح، لنضع بين أيدينا معالجة شرعية وإنسانية لهذه الظاهرة التي تتكرر وتتفاقم في فضائنا الرقمي المعاصر.

سرقة الأعمال الفنية والفكرية.. جريمة شرعية وأخلاقية

الإسلام يقدّس الحقوق، ويحفظ للمبدعين جهدهم، ويُجرّم الاعتداء على إنتاجهم، سواء أكان ماديًا أم فكريًا.

والسطو على أعمال الغير – شعرًا كان أو نثرًا، رسمًا أو تلحينًا، كتابةً أو تصميمًا – هو نوع من السرقة المحرّمة شرعًا.

يقول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منا" [رواه مسلم]

وهذا الحديث لا يقتصر على الغش في البيع والشراء، بل يشمل الغش في القول، والعرض، والنقل، والترويج، وسرقة الجهد.

كما أن نسب ما ليس لك إلى نفسك هو كذب وافتراء، يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المتشبّع بما لم يُعطَ، كلابس ثوبي زور" [رواه البخاري].

فالذي يظهر أمام الناس بجهد غيره كأنه يرتدي ثوبًا مزيفًا، سرعان ما يُكشف، ويُحرم من بركة العمل، ومصداقية الكلمة.

وهذا الفعل يحمل عدة مفاسد:

  •  انتهاك لحقوق الملكية الفكرية التي أقرّها الإسلام كحق ثابت لا يجوز هدره.
  •  تشويه لمصداقية المبدع الحقيقي وحرمانه من ثمرة جهده.
  •  تضليل للجمهور، وإيهامه بأن النجاح والتأثير لا يشترطان الصدق أو الأمانة.
  •  إشاعة ثقافة الغش والانتحال، وهي ثقافة تقتل الإبداع وتفسد الذوق العام.
  • إن من يرتكب هذا الفعل، ثم يتمادى في الإنكار والمكابرة، فإنه يزيد من حجم الجريمة، ويغلق باب التوبة، أما من يعترف ويعتذر، فهو وإن أساء، فقد بدأ أول الطريق إلى الإصلاح.

الاعتذار الصادق والعفو الكريم في ميزان الشرع

لقد جاءت من أخطأت وقالت بوضوح: "نعم، لقد أخطأت".. لم تُكابر، ولم تُنكر، بل اعترفت أمام الناس، وطلبت العفو والصفح، مؤكدة أن ما فعلته كان زلّة، لا منهجًا، وهذا الاعتراف لا يُسقط الخطأ، لكنه يُفتح بابًا للتوبة والتصحيح.

والإسلام لا يغلق الأبواب أمام من يريد العودة، كما قال الله تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" [الشورى: 40]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا" [رواه مسلم].

إن المجتمع الراقي لا يُقصي من اعترف بزلّته، ولا يُغلق أبواب الفرص أمام من صدق في اعتذاره، لكن في الوقت نفسه، لا تُمنح الثقة مجانًا، ولا يُنسى الخطأ دون التزام واضح بعدم التكرار.

فالاعتذار ليس نهاية الحساب، بل بدايته، وهو لا يُثمر إلا إن اقترن بصدق النية، وجدية الإصلاح، واحترام عقول الناس.

من هنا، فإن قبول الاعتذار واجب إذا ثبت الصدق، لكن الإصلاح مسؤولية لا تسقط بالتوبة، ويجب أن يعقب الاعتذار سلوك جديد، وتواضع حقيقي، وجهد نزيه، وفن نابع من أعماق النفس لا من قصاصات الآخرين.

كلمة أخيرة: سامحوها… وانصحوها.. لقد سامحنا من اعتذرت، لا تهاونًا مع خطأها، بل ثقةً بأن الاعتراف فضيلة، وبأن كل إنسان معرّض للزلل.

لكننا نقول لمن أخطأت واعتذرت بصدق: إن احترام الكلمة لا يكون بالتزيين ولا بالاستعراض، بل يكون بالصدق فيما نكتب ونقول ونُقدّم، لأن الكلمة ليست زينةً تُعلّق على واجهات الشهرة، بل روحٌ تُعبّر عن صاحبها، وتُحاكمه إن زلّ أو ادّعى.

واحترام الفن لا يتحقق بمراكمة المتابعين أو التصفيق الزائف، بل بتحقيق رسالة، وبناء معنى، وتقديم شيء يضيف لا يسرق، يبني لا يهدم، ينسب لا يُزوّر. 

أما الجمهور، فليس كتلةً عابرة من الأرقام، بل وعي حيّ، يقرأ ما بين السطور، ويفرز بعقله ما يُقال، ويمنح ثقته لمن يصدُق، لا لمن يسطو.

إن النجاح الذي يُبنى على الزيف، مهما لمع للحظة، سيتهاوى عاجلًا أو آجلًا، لأن جذوره خاوية، وسقفه هش، أما النجاح الذي ينبت من الصدق، ويسقى بالتعب، ويُصان بالنزاهة، فهو وحده من يدوم ويثمر، لأنه يحمل في طيّاته ما يستحق الاحترام، ويُراكم رصيدًا من الثقة لا تهزّه العواصف ولا تُغريه الزينة المؤقتة.

وإلى كل من يعمل في مجالات الفكر والإعلام والفن، تذكّروا أن ما تطرحونه للناس ليس منتجًا يُستهلك وحسب، بل هو أمانة، تحملونها أمام الله أولًا، ثم أمام أنفسكم، ثم أمام هذا الجمهور الذي يثق بكم ويمنحكم من وقته وعقله ومشاعره.

فالإنتاج الإنساني أمانة، سواء كان كلمة تُقال، أو صورة تُرسم، أو لحنًا يُعزف، أو فكرة تُنشر.

ولا تنسوا أن الله مطّلع على السرائر، يعلم ما خفي وما نُوي، وما أُريد بالقول وإن لم يُقال، وأن الناس – وإن خُدعوا لبعض الوقت – فإن أعينهم لا تُغلق إلى الأبد، وقلوبهم لا تُضل طويلًا، فالحقيقة دائمًا ما تجد طريقها، وإن تأخرت.

فلا تجعلوا أقلامكم تنحرف عن جادة الصدق، ولا تتركوا قلوبكم تتيه في غياهب الغرور، ولا تسمحوا لألسنتكم أن تتورط في ادّعاء ما ليس لكم، فالعاقبة في النهاية ليست لمن يسبق، بل لمن يثبت، ويصدُق، ويخلص، ويصمد أمام امتحان القيم قبل الأضواء.

الشيخ: مظهر شاهين

إمام وخطيب مسجد عمر مكرم

تم نسخ الرابط