في كل صيف، تُعلن الطوارئ في البيوت المصرية، وتتحوّل الثانوية العامة من مرحلة تعليمية إلى معركة وجود، ومن امتحان إلى قلق وطني يلامس شرايين كل بيت.
ومع مرور السنوات وتغير السياسات وتبدّل أنظمة الامتحانات، تبقى الأسئلة الكبرى معلقة: هل ما زالت الثانوية العامة تقيس العلم؟ هل تُعدّ الطالب للمستقبل؟
وهل تسهم في بناء جسر آمن بين التعليم وسوق العمل؟ أم أنها صارت مجرد معبر مرهق يُلقي بظله على الطلاب، الأسر، والمعلمين؟
امتحانات الثانوية العامة.. يوم الرعب الجماعي
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد طلاب الثانوية العامة لعام 2025 حوالي 783 ألف طالب وطالبة، يخوضون سباقًا محمومًا نحو كليات "القمة" وسط نظام تعليمي لا يزال يفتقد إلى الاستقرار والعدالة.
لم يعد الامتحان مجرد تقييم للمعرفة، بل أصبح اختبارًا للقدرة على التحمل النفسي والضغوط العصبية، تدور في فلكه حياة أسر بأكملها، تقيس نجاحها وفشلها بمجموع أبنائها، لا بقدراتهم الحقيقية أو ميولهم المستقبلية.
وفي السنوات الأخيرة، طبقت وزارة التربية والتعليم نظام "البابل شيت" والأسئلة الموضوعية بهدف الحد من الغش وقياس الفهم بدل الحفظ.
لكن الواقع كشف عن ثغرات كثيرة، فقد شكا آلاف الطلاب من تعقيد الأسئلة، وعدم وضوحها، وغياب معايير التقييم العادلة، خصوصًا في المواد الأدبية واللغة العربية.
وبينما تقول الوزارة إن النظام الجديد يهدف إلى قياس التفكير النقدي، تشير نتائج الطلاب إلى فجوات واضحة في فهم فلسفة التقييم.

دروس خصوصية.. اقتصاد الظل الذي يبتلع التعليم
أما المشكلة الكبرى فتكمن في بلاعة الدروس الخصوصية، حيث تشير تقديرات المركز المصري للفكر والدراسات إلى أن إنفاق الأسر المصرية على الدروس الخصوصية يتجاوز 50 مليار جنيه سنويًا، ما يعادل تقريبًا نصف موازنة التعليم الأساسي في مصر.
ومع انهيار الدور الحقيقي للمدارس، تحوّلت السناتر إلى مدارس بديلة، وأصبح المعلم "الخاص" هو مصدر الفهم والشرح، في مقابل تراجع الثقة في النظام التعليمي الرسمي.
والمفارقة أن الدولة تعلن حربًا على الدروس الخصوصية، بينما هي في الواقع تتغذى من فشل السياسات التعليمية نفسها.
التعليم العالي.. مقصلة التنسيق وغياب العدالة
ترتبط الثانوية العامة بالتنسيق الجامعي في علاقة مصيرية، فطالب حصل على 95% قد لا يجد مقعدًا في كلية الطب بسبب نصف درجة، بينما يجد آخر طريقه سالكًا نحو كلية قمة في جامعة خاصة لمن يدفع.
ورغم وجود أكثر من 27 جامعة حكومية و30 جامعة خاصة، لا تزال معايير القبول متناقضة ومبنية على "المجموع"، لا على الميول والقدرات الحقيقية.
وتتضح الفجوة أكثر عندما نعلم أن هناك مليون ونصف خريج جامعي يدخلون سنويًا إلى سوق العمل، معظمهم بلا فرص حقيقية أو بمهارات غير ملائمة، وهو ما يساهم في ارتفاع معدل البطالة بين الشباب، والذي بلغ في 2023 نحو 24.2% للفئة العمرية من 15 إلى 29 عامًا، بحسب البنك الدولي.

وتُظهر دراسات سوق العمل في مصر أن هناك اختلالاً صارخًا بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق، فبينما يفيض السوق بخريجي كليات التجارة والحقوق والآداب، تعاني القطاعات التكنولوجية والفنية من نقص حاد في الكفاءات.
والمفارقة أن أوائل الثانوية العامة غالبًا ما يتجهون إلى كليات نظرية بدافع المجموع، لا بدافع الرغبة أو ملاءمة السوق، ما يفاقم مشكلة البطالة المقنعة ويكرّس ثقافة الشهادة بدلاً من المهارة.
إن أي إصلاح لمنظومة الثانوية العامة لا يجب أن يقتصر على شكل الامتحان، بل يجب أن يتضمن رؤية شاملة لإعادة هيكلة العلاقة بين التعليم قبل الجامعي، والتعليم العالي، وسوق العمل.
ولا بد من تفعيل التوجيه المهني للطلاب من مراحل مبكرة، وتوسيع القبول في التعليم الفني والتكنولوجي، وربط التنسيق الجامعي بالقدرات والتحليل، لا بمجرد الأرقام.
كما يجب على الدولة إعادة الاعتبار لدور المدرسة والمعلم، وتطوير المناهج لتبني مهارات التفكير النقدي والابتكار، لا الحفظ والتلقين. فالمستقبل لا تصنعه الدرجات، بل تصنعه العقول.
وفي الختام، تبقى الثانوية العامة مرآة تعكس أزمات أعمق في بنية النظام التعليمي المصري، وهي بحاجة إلى شجاعة في التشخيص وجرأة في الحل، حتى لا تبقى مجرد "سنة مصيرية" تستهلك أعمار الطلاب وأحلامهم، ثم تتركهم على عتبة الجامعة، بلا رؤية، ولا مستقبل.
هبة صالح