تصاعد نفوذ تطبيقات الفيديو القصير، وفي مقدمتها "تيك توك"، لم يعد مجرّد ظاهرة شبابية، بل أصبح سلوكًا ثقافيًا يوميًا يعيد تشكيل العلاقة بين الشباب والمعرفة، بين المعلومة ومصدرها، وبين التعليم والوعي.
لم تعد المعلومة في زمننا تحتاج كتابًا أو محاضرة أو بحثًا لتصل، بل يكفي هاتف في اليد، وتطبيق على الشاشة، وإصبع يتنقل بين المقاطع حتى تملأ الرأس آلاف "البيانات".
إلا أن هذا الانفتاح اللامحدود لا يعني بالضرورة انفتاحًا على المعرفة، بل قد يكون اختراقًا للعقل، وتشكيلًا مموهًا للوعي، خاصة حين تُقدّم المعلومة من دون سياق، ومن دون مصدر، ومن دون وعي.

منصة تيك توك، التي اجتذبت أكثر من 41 مليون مستخدم نشط في مصر فقط وفق تقارير Digital 2025، تحوّلت إلى واحدة من أكثر أدوات التأثير خطورة على عقل الطالب، وذهنية الشاب.
ففي ثوانٍ معدودة، ينتقل المستخدم من مشاهدة رقصة إلى متابعة مقطع بعنوان "احفظ المنهج كله في دقيقة"، ومن فيديو ساخر إلى آخر يشرح قوانين الفيزياء أو التاريخ أو الدين بأسلوب مبسط وساخر، وغالبًا دون أي تدقيق علمي أو مرجعية معروفة.
المعضلة لا تكمن فقط في حجم الانتشار، بل في انزياح الثقة من المؤسسات التعليمية نحو المنصات الرقمية، دون إدراك لما تحمله هذه المنصات من محتوى مشوش، وشبهات معرفية، ونصوص منقوصة أو مزيفة.
فمن خلال مقاطع قصيرة، تتسلل إشاعات، وتُصنع قناعات، وتُعاد صياغة المفاهيم، حتى أصبح كثير من الشباب يثق بما يسمعه على تيك توك أكثر مما يتلقاه في فصول الدراسة. وتشير دراسة صادرة عن مركز البحوث الاجتماعية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أن 37% من طلاب المرحلة الثانوية اعتمدوا مرة واحدة على الأقل على محتوى تعليمي من تيك توك في مراجعاتهم، بينما أكد 22% منهم أنهم شعروا بالتشتت أو الارتباك نتيجة الاعتماد عليه.
هذا التناقض الحاد بين ما هو رسمي وما هو رقمي يخلق فجوة معرفية خطيرة. فالشاب الذي يُتابع محتوى ترفيهيًا يتسلل من خلاله "تعليم زائف" يتشبع تدريجيًا بثقافة مبنية على الاختصار والسهولة، لا على البحث والتأمل.
وتكمن الخطورة حين تصبح المعلومة خفيفة وسريعة إلى درجة أنها تُستهلك وتُنسى، أو تُحفظ وتُعمم دون فهم، ويختفي معها مبدأ التحقق والرجوع إلى الأصل.
وعي يتآكل ببطء وسط انفجار المحتوى
الواقع اليوم لا يشير فقط إلى أزمة تعليمية، بل إلى أزمة وعي مركّبة، فنحن أمام جيل يعيش تحت سطوة الشاشات، يتلقّى المعرفة من مقاطع قصيرة على تطبيق تيك توك، يُعرض عليه فيها العلم كما يُعرض الإعلان، بواجهة لامعة، وكلمات منمّقة، ومؤثرات بصرية تجعل المعلومة تبدو سهلة وجذابة.
هذا الشكل من الاستهلاك المعرفي لا يسمح له ببناء فهم نقدي، بل يجعله يُسلّم بما يراه، ويشارك ما لا يعرف، ويكرّر ما يُقال دون أن يتأمّل من يقوله.
أصبح الشاب يبحث عن الاختصار لا العمق، وعن السهل لا الصعب، وعن من يؤكد له ما يريد سماعه لا من يصحح له ما لا يعرفه.
وفي ظل غياب المدرسة الفاعلة، وتراجع دور المعلم النموذج، وانشغال الأسرة عن المتابعة، تحوّل تيك توك من تطبيق إلى مؤثر خفي يُعيد برمجة الأذهان بعيدًا عن الفحص العلمي والمنهج الأكاديمي.

وتشير الأرقام إلى أن 60% من مستخدمي تيك توك تحت سن 25 لا يتحققون من المعلومات التي يشاهدونها، وفق دراسة Pew Research لعام 2024، في حين يقوم 44% منهم بمشاركة تلك المعلومات مباشرة دون التأكد من صحتها.
الظاهرة لم تعد مجرد "مشكلة محتوى"، بل أصبحت مسألة أمن معرفي، لأن الأجيال التي تنمو على المعرفة المختصرة والمنقوصة، لا تملك لاحقًا أدوات الفهم العميق، ولا آليات التمييز بين الرأي والمعلومة، ولا قدرة على بناء موقف فكري أو علمي متزن. إن فقدان هذه الأدوات يجعل من الشاب هدفًا سهلًا للإشاعة، والتطرف، والتشويه الثقافي، والسطحية التي تقتل القدرة على الإبداع.
وهنا لا يكون الحل في حظر المنصة أو تخويف المستخدم، فالتكنولوجيا باقية، وستتطور أكثر، بل الحل يكمن في استعادة الثقة بين الطالب والمعرفة الحقيقية، وفي توفير بدائل رقمية تنافس بلغة العصر لا بلغة الوعظ، وتستخدم الوسائط الحديثة لكن بمضمون موثوق، ويقودها أصحاب تخصص لا مجرد صنّاع شهرة.
كما أن تطوير المناهج لتُدرّس مهارات التفكير النقدي والوعي الرقمي، أصبح ضرورة لا ترفًا، لأن معركة الجيل القادم ليست مع الجهل فقط، بل مع الشكل الجديد للجهل الذي يتنكر في هيئة معلومة.
إذا لم نُدرك اليوم أن مستقبل المعرفة لم يعد يُصاغ في القاعات فقط، بل على الشاشات أيضًا، فإننا سنجد أنفسنا بعد سنوات أمام جيل يُجيد التفاعل ولا يُجيد الفهم، يُكرر ولا يُبدع، يُشارك لكنه لا يُفكر، وحينها، لن نكون قد خسرنا التعليم فقط، بل خسرنا العقل.
هبة صالح