قطاع البناء في مصر لم يعد مجرد نشاط اقتصادي ضمن غيره من القطاعات، بل أصبح بمثابة المحرك الأول لعجلة التنمية، والرافعة الثقيلة التي تنقل الوطن من ضيق التحديات إلى رحابة الطموح.
إنه القطاع الذي يضم أكثر من 35 ألف شركة مقاولات، ويُسهم بأكثر من 18.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل به ملايين المواطنين الذين يستيقظون كل صباح لا ليكسبوا لقمة العيش فقط، بل ليشيّدوا حاضر بلدهم ومستقبله.
وبحسب التقديرات، بلغ حجم سوق البناء في مصر 50.78 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 75.97 مليار دولار بحلول عام 2029، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 8.39%.
وهناك مؤشرات قوية أن القطاع سيتجاوز 82 مليار دولار في عام 2030، وقد يصل إلى أكثر من 89 مليار دولار وفق بعض التقديرات الدولية.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل تعكس حجم الجهد والإرادة والرؤية التي جعلت من قطاع التشييد قاطرة اقتصادية حقيقية تتقدم بها مصر في سباق التنمية.

مصر تبني الغد.. قطاع البناء والتشييد يقود قاطرة الاقتصاد والتنمية
ما يميز التجربة المصرية في البناء أن الدولة لم تعتمد على البنية التحتية التقليدية فقط، بل دفعت بقوة في اتجاه مشروعات عملاقة ومتنوعة شملت تحديث الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والمدن الذكية. فخلال أقل من عامين، أُنجزت مشروعات بنية تحتية بقيمة 1.7 تريليون جنيه مصري (ما يعادل نحو 106.25 مليار دولار)، وهو رقم يُعبّر عن حجم غير مسبوق من الاستثمارات التي غيّرت وجه البلاد.
وتشمل هذه الإنجازات مشروعات حيوية مثل القطار الكهربائي السريع بعقد قيمته 8.7 مليار دولار مع شركة سيمنز الألمانية، بالإضافة إلى خطط لبناء 14 مدينة ذكية في مختلف المحافظات، بما يعكس تحولًا في فلسفة العمران من مجرد توسع عمراني إلى نماذج تنموية متكاملة.
ولم تكن العاصمة الإدارية وحدها في بؤرة هذا التحول في القاهرة وحدها، حيث تم ضخ استثمارات عقارية بقيمة 20 مليار دولار في عام 2022، منها 16 مليار للقطاع السكني فقط، مع ارتفاع ملحوظ في أسعار العقارات بنسبة 10% خلال نفس العام.
كما بدأت الحكومة في خطوات جادة لتداول العقارات في البورصة، وإنشاء صندوق عقاري بأصول إدارية وتجارية، وجذب استثمارات سيادية تصل إلى 120 مليار دولار، بما يؤكد أن العقار المصري بات أصلًا استثماريًا عالميًا، خاصة في ظل انخفاض سعر العملة المحلية، وارتفاع تنافسية السوق المصري في عيون المستثمرين الأجانب.

قطاع البناء والتشييد يقهر جائحة كورونا
قطاع البناء لم يكن بمنأى عن التحديث الرقمي بعد جائحة كوفيد-19، بل شهد تطورًا تقنيًا حقيقيًا مع انتشار نمذجة معلومات البناء (BIM) والبيئات التشاركية في تصميم المشروعات، مما أسهم في تقليل التكاليف وتحسين الكفاءة، وأوجد بُعدًا معرفيًا جديدًا في مهنة كانت تُصنّف سابقًا ضمن الصناعات التقليدية.
وقد أصبح التحول الرقمي ركيزة لا غنى عنها في مشاريع الدولة، ويتطلب أن يكون العمال والمهندسون وشركات المقاولات جميعًا شركاء في التغيير لا مجرد منفذين له.
وفي مشهد لا يقل إبهارًا عن الإنشاءات الضخمة، انطلقت الدولة في تنفيذ مشروع صندوق التنمية الحضرية (UDF) بتكلفة تقدر بنحو 600 مليار جنيه (أي ما يعادل 20.11 مليار دولار)، لتطوير 230 منطقة حضرية في عواصم المحافظات والمدن الكبرى خلال خمس سنوات فقط.
ويشمل المشروع تطوير 35 موقعًا عاجلًا بمساحة 1750 فدانًا، و60 موقعًا ذا أولوية أولى بمساحة 2600 فدان، و135 موقعًا ذا أولوية ثانية بمساحة 10149 فدانًا، مما يعني أن التنمية لم تعد حكرًا على العاصمة بل تمتد إلى عمق الأقاليم.
في عام 2022 وحده، كانت هناك مشروعات بنية تحتية قيد التنفيذ بقيمة 93 مليار دولار، إلى جانب مشروعات في مرحلة ما قبل التنفيذ تُقدّر بـ425 مليار دولار.
وتضمنت خطة عام 2022/2023 وحدها تنفيذ 45 مشروعًا استراتيجيًا و10 محاور عرضية على النيل و18 كوبري علوي وكهربة 1000 كم من إشارات السكك الحديدية وتوسعة شبكة المترو وإنشاء 47 محطة للقطار السريع، فضلًا عن خطوط المترو الجديدة مثل الخط الثالث (بتكلفة 4.8 مليار دولار)، والخط الرابع (بتكلفة 400.3 مليون دولار)، ومشروع المونوريل (بتكلفة 4.5 مليار دولار)، وجسر الملك سلمان الذي يربط مصر بالسعودية بطول 50 كم وبتكلفة مماثلة.

هذه الطفرة لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتيجة خطة استراتيجية طويلة الأجل، وضعت البناء والتشييد في قلب رؤية مصر 2030. وتقديرًا لهذا الزخم، صنّف تقرير "فيتش" مصر كثاني أقوى سوق للبناء والتشييد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2023، وتوقع أن تستحوذ مصر على نحو 30% من إجمالي حجم صناعة التشييد والبناء في المنطقة بحلول 2029، متفوقة على دول عديدة في عدد المشروعات وقيمتها.
لكن وسط هذه الإنجازات، لا يمكن إغفال التحديات التي تواجه القطاع، وعلى رأسها ارتفاع تكلفة مواد البناء والمعدات بسبب التضخم وتقلبات أسعار الصرف، وتأخر بعض سلاسل التوريد العالمية، فضلًا عن نزاعات العقود التي قد تُضيف من 5% إلى 25% من التكلفة الإجمالية للمشروعات.
ورغم هذه التحديات، ظل القطاع متماسكًا بفضل الإرادة السياسية والدعم الحكومي، وثقة المستثمرين، وتكامل البناء مع قطاعات أخرى كالنقل والطاقة والخدمات المالية.
أما على الأرض، فتظل الحكاية الحقيقية مكتوبة بعرق العمال، وسهر المهندسين، ورؤية العقول التي ترى فيما تبنيه مصر اليوم ليس فقط بيوتًا وطرقًا، بل وطنًا جديدًا يتشكل من الأساس.
فهنا لا تُشيّد الجدران فحسب، بل يُعاد تشييد الحلم الوطني ذاته، على قواعد صلبة من الأمل، والجدية، والاستثمار في الإنسان والمكان.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن حاضر مصر أو مستقبلها دون أن نضع قطاع البناء والتشييد في صدارة المشهد، لأنه ببساطة ليس مجرد صناعة، بل هو تجسيد ملموس لإرادة التغيير، ونقطة الانطلاق الحقيقية نحو دولة حديثة تستحق أن تُبنى كما تُحلم.
رضا حبيشي
- قطاع البناء والتشييد
- قطاع البناء في مصر
- قطاع التشييد في مصر
- صناعة البناء والتشييد في مصر
- شركات البناء المصرية
- الاستثمار في قطاع التشييد
- الاقتصاد المصري وقطاع البناء
- فرص العمل في البناء والتشييد
- مشروعات البناء القومية في مصر
- تطور البنية التحتية المصرية
- مستقبل قطاع التشييد
- نمو قطاع البناء المصري
- التحديات في قطاع التشييد
- سوق العقارات وقطاع البناء
- البناء المستدام في مصر