منذ تدخل حلف الناتو في ليبيا عام 2011 تحت شعار "حماية المدنيين"، دخلت البلاد مرحلة من الفوضى والانقسام، في ظل غياب مشروع وطني يقود المرحلة الانتقالية.
فما سُمي "الربيع العربي" تحوّل في الحالة الليبية إلى "ربيع غربي"، تدخّلت فيه قوى دولية خدمةً لمصالحها، بينما تُرك الليبيون يتخبطون في أزمات متلاحقة، كان السلاح فيها سيد الموقف، والانقسام عنوان المرحلة.
تحرك الشارع في بعض المدن، وسقط النظام، لكن غابت الرؤية لليبيا الجديدة: دولة مدنية ديمقراطية دستورية، ظهر الانقسام، وانتشرت المليشيات، وتوقفت مسيرة بناء الدولة، نتيجة هشاشة المؤسسات، وتعقيدات البنية القبلية والجهوية المتناقضة.
القيادات التي تصدرت المشهد، والتي تواصلت مع الخارج، أثبتت أنها بلا مشروع وطني ولا خطة واضحة، وانزلقت في تحالفات إيديولوجية ومناطقية، هدفها إسقاط النظام أولًا، دون أن تُعير انتباهًا لما بعد ذلك. وهكذا تحولت البلاد إلى ساحة صراع مفتوحة، تتقاطع فيها المصالح المحلية والإقليمية والدولية.
تدويل بلا نتائج
المجتمع الدولي، بقيادة الأمم المتحدة، حاول منذ 2011 إدارة الأزمة الليبية عبر مبعوثين ولقاءات ومؤتمرات، لكن دون التوصل لحلول دائمة. تم اتخاذ إجراءات مؤقتة، وشُكلت لجان حوار مشبوهة التكوين، مع تجاهل إرادة الشارع الليبي. لم تُسمَّ الأطراف المعرقلة صراحة، بل تم تحميل الجميع المسؤولية بالتساوي، ما أفقد البعثة الأممية حيادها، وثقة كثير من الليبيين في دورها.
حتى عندما نجحت الأمم المتحدة، كما في عام 2021، عبر المبعوثة ستيفاني ويليامز، في فرض تشكيل حكومة ومجلس رئاسي، فإن ذلك لم يكن نابعًا من توافق داخلي حقيقي، بل من تدخل مباشر لم يُعالج جذور الأزمة.
مؤتمرات بلا نهاية: ماذا بعد برلين 3؟
شهدت ليبيا سلسلة من المؤتمرات الدولية منذ عام 2011، تكررت فيها الوعود وتغيرت الوجوه، لكن بقيت النتائج على الأرض معدومة. وأبرز هذه المؤتمرات:
- باريس الأول (مارس 2011) – للتدخل العسكري بدعم من فرنسا وبريطانيا.
- إسطنبول (يوليو 2011)، والدوحة (أكتوبر 2011) – لدعم المجلس الانتقالي.
- روما (2012) ومدريد (2014) – لمناقشة الوضع الأمني والانفلات.
- الصخيرات (2015) – الاتفاق السياسي وإنشاء حكومة الوفاق.
- باريس الثاني (2018) وباليرمو (2018) – محاولات لتوحيد المؤسسات.
- برلين الأول (2020) – أطلق مسارات الحل الثلاثة (السياسي، الأمني، الاقتصادي).
- برلين الثاني (2021) – أكد على ضرورة الانتخابات ولم تُنفذ.
- باريس الثالث (2021) – تكرار للالتزامات نفسها دون جديد.
- برلين الثالث (يونيو 2025) – في ظل انسداد سياسي وأزمات اقتصادية، خرج المؤتمر بنفس التوصيات القديمة، وسط انشغال القوى الكبرى بملفات دولية مثل الصراع الإيراني الإسرائيلي والحرب في أوكرانيا.
وهكذا، بلغ عدد المؤتمرات والاجتماعات الدولية الكبرى بشأن ليبيا أكثر من 14 مؤتمرًا دوليًا، ما بين محاولات تفاوض ودعم خارجي وحوارات مفروضة، دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
لا حل إلا من الداخل
نعتقد جازمين أن الحل في ليبيا يجب أن يكون ليبيًا خالصًا، بعيدًا عن الوصاية الدولية، أو الإملاءات الإقليمية. والمؤتمرات الدولية، وإن أُحيطت بهالة إعلامية، فإنها كثيرًا ما تكون أقرب إلى خدمة مصالح الدول الراعية منها إلى إنقاذ ليبيا، خاصة حين لا تتقاطع مصالح هذه الدول مع مصالح الليبيين أنفسهم.
من غير المنطقي أن نستمر في لوم الآخرين على التدخل، طالما نحن من نمنحهم الذريعة والمجال. فقد أثبتت التجربة أن الاجتماعات قد تتكرر بلا نهاية، كما تتبدل الوجوه الأممية، وتبقى الأزمة مكانها.
وما يزيد تعقيد المشهد أن بعض الأطراف المحلية لا ترغب في حل فعلي للأزمة، لأنها ببساطة لا تملك حظوظًا سياسية، ولا تحظى بقبول شعبي. هذه الأطراف انتهى دورها من البداية، لكنها تجد في الدعم الدولي والإقليمي وسيلة للبقاء والاستمرار، في تجاهل صارخ لإرادة الليبيين. وهذا ما يجب أن يتوقف فورًا.
الخطوة الأولى: السلاح والثقة
إن التجربة الليبية تُثبت أن أي حل سياسي جاد يبدأ بخطوتين جوهريتين:
- 1. جمع السلاح خارج شرعية الدولة، لأن الفوضى المسلحة تقوض أي بناء سياسي أو مؤسسي.
- 2. بناء الثقة بين الليبيين، من خلال دعم الأحزاب الوطنية، وإنهاء الاصطفاف المناطقي والجهوي، وإعادة الاعتبار للعمل المدني والسياسي كرافعة أساسية لأي انتقال ديمقراطي.
وعلى الأمم المتحدة أن تُغيّر من مقاربتها، بالتركيز على دعم القوى الوطنية الحقيقية، لا على فرض نخب مفروضة أو تجاوز الأطراف الشرعية.
صوت الليبيين أولًا
الحل في ليبيا ليس معقدًا كما يُروج له، لكنه يحتاج إلى إرادة داخلية، ودعم دولي حقيقي يحترم خيارات الليبيين ولا يُدير الأزمة كملف تفاوضي بين القوى الكبرى. صوت الليبيين يجب أن يُسمع، ويُترجم إلى مشروع وطني جامع، ينهض من الداخل، لا من مقرّات المؤتمرات الدولية.
لقد آن الأوان لليبيين أن يستعيدوا زمام المبادرة، بعيدًا عن الوصاية، ومن أجل بناء دولة تُعبّر عنهم، لا عن من يتحكم في المشهد من خلف الستار.