الثلاثاء 17 يونيو 2025
الايام المصرية
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

صحافة الـAI، الاستعمار لم يمت.. فقط غيّر جلده، وتخفّى خلف شعارات التقدم والتكنولوجيا.. لم تعد الجيوش تزحف بالدبابات، بل بالخوارزميات. لم تعد الدول تُحتل، بل تُعاد برمجة وعي شعوبها.

عبر التاريخ، لم يكن الاستعمار مجرد احتلال أرض، بل كان استيلاءً على الوعي، وفرضًا لرؤية الآخر بالقوة، سواء عبر السلاح أو الكلمة. تنوّعت صوره بين الغزو العسكري، والهيمنة الاقتصادية، والتبشير الثقافي، وصولاً إلى الاستعمار الناعم الذي يتسلل إلى العقول بلا طلقة واحدة. نعيشه كل يوم مع العالم الرقمي و السوشيال ميديا. واليوم، أمام الطفرة الهائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، نشهد شكلاً جديدًا من الاستعمار… استعمار إعلامي معاصر، تُمارسه الخوارزميات، وتُعيد فيه المنصات الكبرى رسم خرائط النفوذ والتأثير، ليس على الجغرافيا، بل على العقول والأخبار والحقيقة ذاتها. يطل علينا بوجه أنيق اسمه “صحافة الذكاء الاصطناعي”. أكثر مراوغة ودهاء، الذكاء الاصطناعي في الصحافة. لا يتحدث بلهجة المحتل، ولا يرفع شعارات، بل يكتب أخبارًا ومقالات وتقارير وتحقيقات، تُقرأ وتُتداول وتُصنَّف على أنها “محتوى موضوعي”. فبرامج الكشف عن الانحياز، وتطبيقات توليد المحتوى اللحظي كلها أصبحت جزءًا من المشهد المعاصر.
إننا لا نواجه فقط ثورة تكنولوجية في غرف التحرير، بل تحولًا عميقًا في ميزان السيطرة على المعلومة والمعنى. فلم تعد الصحافة تكتب فقط على يد بشر، بل تُنتَج بالتعاون — أو التنافس — مع الخوارزميات. ففي 23 مارس 2025 أكدت الصحيفة الإيطالية «إيل فوليو» Il Foglio، وهي صحيفة يومية نجحت في اصدار عدد كامل بواسطة الذكاء الاصطناعي وبالتالي تعد أول صحيفة بالذكاء الاصطناعي في العالم. وقد ساهم هذا التحول في زيادة معدل المبيعات بنسبة تخطت 60 % حيث شمل العدد 22 مقالة تتنوع بين السياسة والشؤون المالية، بالإضافة إلى ثلاث مقالات رأي. واطلق عليها اسم “إل فوليو أيه. آي”. ومن أبرز ما كتبة الذكاء الاصطناعي في العدد تحليل لخطابات رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، ومقال افتتاحي عن الاتصال الهاتفي بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، ومقال عن الموضة.
وقد تصدر المشهد عبر المواقع والمنصات الاخبارية العربية والعالمية تصريحات مدير «إل فوليو» كلاوديو تشيرازا تفاصيل هذا المشروع الذي أستمر شهرًا حيث قال الهدف من التجربة اجراء استخدام فعلي للذكاء الاصطناعي يتعلق باختبار أنفسنا وبالتالي فهم حدود الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضًا فرصه. الحدود التي يجب تجاوزها والحدود التي لا يمكن تجاوزها. كل هذا يمكن أن يولد في صحيفة كصحيفتنا، لأنها تتمتع بأسلوب كتابة جريء وساخر ومبدع. نحن نفعل أشياء لا يمكن إنتاجها بسهولة بواسطة آلة. كان هدفنا إظهار خصوصيتنا وتجربة شيء لم يختبره أحد آخر في العالم من قبل، من خلال إثارة نقاش، ولكن خصوصاً من خلال محاولتنا أن نفهم بأنفسنا كيفية دمج الذكاء الاصطناعي مع الذكاء الطبيعي. كما أشار في تصريحاته حول رد فعل القراء (فان 90 % من القراء استمتعوا بالتجربة، و10 % يشعرون بالقلق ويقولون «لا تتخلوا أبداً عن ذكائكم الطبيعي لأنكم أفضل». لكن لا أحد يقول إن التجربة غبية وليس لها معنى. الجميع يفهم روحية هذه المبادرة.).
الجدير بالذكر تأسست صحيفة “إل فوليو” عام 1996 وهي واحدة من أقل الصحف توزيعا على المستوى الوطني في إيطاليا.
من الصعب المقارنة بين القارئ الإيطالي وأي جنسية أخرى وكيفية قبوله هذا المشروع، ومدى التأثير والتأثر، ولكن السؤال المٌلح ( من يقرأ من؟!).
هل هذه تجربة تقنية مبهرة أم إعلان مبطّن عن موت الحرف الصحفي البشري؟
هل أصبح الصحفي مجرد “مُحرّر مشرف” على ما يكتبه الذكاء الاصطناعي؟
أين الخط الفاصل بين الإبداع البشري والإتقان الاصطناعي؟
وهل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي موضوعيًا أكثر من الإنسان؟ أم أنه ببساطة مرآة منحازة لمَن صنعه؟
من يجيد العلم والإجابة علينا ؟!…. فخلف هذه الواجهة المعاصرة اللامعة ووفق أهواء الخوارزميات. وسيطرة شركات عملاقة على أدوات الذكاء الاصطناعي منصات كبرى مثل Google News، وOpenAI، وMeta تُنتج محتوى وتُحرر أخبارًا وتُرتّب أولويات العالم، بينما صحف بأكملها تتخلى عن غرف تحريرها البشرية لصالح روبوتات تحرير ذكية. هل نحن أمام طفرة تقنية؟ أم أمام استعمار ناعم يعيد تشكيل وعينا الجمعي، ونحن نبتسم للكاميرا على السوشيال ميديا؟.
لم نتوقف عند هذا فمن أبرز الأمثلة لتجارب صحف ومؤسسات إعلامية اعتمدت الذكاء الاصطناعي في التحرير، حتّى لو في مراحل تجريبية:_
شركة Taboola تختبر chatbot اسمه “DeeperDive” ضمن USA Today وThe Independent، لجلب مقالات وإجابات معلوماتية في الوقت الفعلي، مدعومة بالإعلانات ذات الصلة .
استخدمت Politico الذكاء الاصطناعي لتلخيص الأحداث المباشرة عبر شراكة مع Capitol AI. لكن الاتحاد الصحفي رفع قضية احتجاجًا على عدم إشراكهم في القرارات التحويلية، مما يضع نموذجًا لكيفية تنظيم العلاقة بين الصحفي والآلة والقانون.
أما عن The Guardian تجربة استباقية أطرت استخدام الذكاء الاصطناعي داخليًا، مثل تحرير العناوين وإعادة الصياغة، مع ضمان الإشراف البشري الصارم.
وجاءت Associated Press (AP) واحدة من أوائل المؤسسات التي وظفت الذكاء الاصطناعي لتوليد أخبار مالية ورياضية وروتينية منذ عام 2014، موفرة على الصحفيين الوقت للتركيز على الجوانب الأكثر أهمية.
اعتمد The Washington Post — “Heliograf ” روبوت صحفي نشط منذ 2016، غطّى مثلًا الأولمبياد وتفاصيل مباريات المدارس الثانوية، الأمر الذي وفر تغطية شاملة لمساحات كبيرة في وقت قياسي.
كما دخلت Newsquest — Berrow’s Worcester Journal تجربة تُدعى “AIassisted reporters” لتحويل دقائق اجتماعات محلية إلى تقارير جاهزة، مما برز دور الصحفي كمدقق للآلة، لا مبتكر.
أما Richland Source في ولاية أوهايو بالولايات المتحدة قد اعتمدت نظام “Lede AI” لتغطية آلاف مباريات المدارس الثانوية سنويًا بدقة ~99.6%، مع تحرير بشري لاحق.
وكذلك La Naciónفى الارجنتين استخدمت الذكاء الاصطناعي في مراقبة نتائج الانتخابات بالصور والوثائق، لإبراز أخطاء وتصحيحات بشكل دقيق.
الخلاصة هذه أمثلة توضح أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام صار أمرًا واقعًا، لا تجربة معزولة. بعضها ارتبط بروبوتات تغطية، تلخيصات فورية، أو أدوات تحرير؛ وبعضها أثار قلقًا أخلاقيًا وتنظيميًا حول الهوية المهنية للصحفي.
الاعتراف بتوازن النظرة بين الايجابيات والسلبيات لصحافة الذكاء الاصطناعي هو قمة الوعى للمؤسسات الصحافية والإعلامية و الصحفي والقارئ. فمهما دارت العقول بخوارزميات، ونتجت “الحقائق” على سطر برمجي، لا يكفي أن نُصفق للتقدم وننبهر بالسرعة. الذكاء الاصطناعي ليس شيطانًا ولا ملاكًا، بل أداة ويجب أن يظل أداة… والسؤال الأخطر هو: من يُمسك بها؟ وما غايته؟، فهي لا تطرق الباب، بل تتسلل من بين أيدينا، ونحن نُمرر الأخبار ونُشارك المحتوى بلمسة إصبع. وفي خضم هذا الضجيج المعلوماتي، تظل المهمة الأصعب ليست في “قراءة” ما يُنشر، بل من كتبه؟ ولماذا؟.فلم يعد الاستعمار يحتل الأرض، لكنه ما زال يملك سلاحًا أخطر …احتلال المعنى.

تم نسخ الرابط