
انتهينا في المقال الأول من سلسلة حلقات «أوجاع صاحبة الجلالة.. حكاية مهنة تُصارع الموت» إلى توصيف عام للأمراض التي تعاني منها صناعة الصحافة في مصر، والتي كانت تُعد حتى وقت قريب أحد أركان قوة الدولة الشاملة!
وفي حلقة اليوم نبدأ بتشخيص المرض الأول لصناعة الصحافة، وهو تراجع حجم التوزيع بدرجة تفوق المألوف، بعد أن كانت قراءة الصحف الصباحية كالصلاة اليومية.
فما هو حجم الأزمة؟ وأين وصلت؟ وهل يمكن علاجها؟.. هذا ما سنجيب عنه في حلقة اليوم.
انخفاض توزيع الصحف في العالم وانهيار في مصر!
قبل أن نبدأ في رصد الأزمة على أرض الواقع، لا بد أن نعترف بأن تراجع نسبة توزيع الصحف أزمة عالمية وليست محلية، إلا أن الوصف الدقيق للأزمة محليًا وعالميًا هو أن توزيع الصحف في جميع دول العالم شهد انخفاضًا تدريجيًا بسبب عمليات التحول الرقمي السريعة، بينما في مصر شهدت عملية توزيع الصحف انهيارًا تامًا!
فعلى الصعيد العالمي، تشير الإحصائيات الدولية إلى انخفاض تدريجي في أرقام التوزيع منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث سجلت أوروبا تراجعًا بنسبة 12% في توزيع الصحف بين عامي 1995 و2004، فيما بلغ الانخفاض في الولايات المتحدة وكندا ما بين 6% و7%. وعلى النقيض، شهدت الأسواق الآسيوية نموًا ملحوظًا، مما أكد تفوقها كمركز رئيسي للصحافة الورقية عالميًا.
ووفقًا للجمعية الدولية للصحافة، هناك نحو 439 مليون شخص يشترون صحيفة ورقية يوميًا حول العالم، بينما تجاوز عدد قراء الصحف الورقية (بمعدل التعدد multiplicity rate) مليار قارئ عام 2020.
وتُظهر الإحصائيات أن أكبر أسواق الصحف الورقية تتصدرها آسيا، حيث جاءت الصين في المرتبة الأولى بتوزيع 96.6 مليون نسخة، تلتها الهند بـ78.7 مليون، ثم اليابان بـ69.7 مليون، فيما جاءت الولايات المتحدة رابعةً بـ53.3 مليون نسخة، وألمانيا خامسةً بـ21.5 مليون نسخة.
انهيار توزيع الصحف في مصر
أما على مستوى الصحف المصرية، فتشير أحدث الدراسات إلى أن حجم توزيع الصحف في مصر عام 2010 بلغ نحو مليار نسخة سنويًا، بواقع 83.4 مليون نسخة شهريًا، ونحو 2.7 مليون نسخة يوميًا، بينما تراجعت نسبة التوزيع في 2021 بنسبة مرعبة، حيث بلغت نحو 252 مليون نسخة سنويًا، بنسبة تراجع بلغت 75%، بواقع 690 ألف نسخة يوميًا، بنسبة تراجع بلغت نحو 74.8% مقارنة بعام 2010.
وطبقًا للدراسة، فإن تفاصيل التراجع السنوي في توزيع الصحف المصرية كان على النحو التالي:
2011: 920.9 مليون نسخة (انخفاض 9%).
2012: 646.6 مليون نسخة (انخفاض 36%).
2013: 758.2 مليون نسخة (ارتفاع مؤقت).
2014: 655 مليون نسخة (انخفاض 35%).
2015: 560.7 مليون نسخة (انخفاض 44%).
2016: 535 مليون نسخة (انخفاض 47%).
2019: 199 مليون نسخة (انخفاض 80%).
2021: 252 مليون نسخة (تحسن طفيف بعد أدنى نقطة).
القراء يفرون نحو الصحف الرقمية
في ظل التحول الرقمي المتسارع، أصبحت الصحف الإلكترونية الخيار الأول لمليارات القراء حول العالم، بينما تواصل المطبوعات تراجعها التاريخي.
حيث تشير التقارير العالمية إلى أن هناك نحو 4.9 مليار شخص يستخدمون الإنترنت عالميًا في 2024، من بينهم نحو 86% من القراء يعتمدون بشكل أساسي على المنصات الرقمية للأخبار، كما أن هناك نحو 3.4 مليار قارئ يصلون إلى الأخبار عبر الهواتف الذكية، طبقًا لتقرير(DataReportal) و(Statista 2023).
كما أظهرت دراسة لمعهد رويترز (2023) انخفاض مبيعات الصحف الورقية بنسبة 50% منذ 2008، وفي المقابل زيادة قراءة النسخ الرقميةبنسبة 300%.
أما بالنسبة لترتيب الدول الأكثر قراءةً رقميًا، فتتصدرها النرويج، التي يعتمد نحو 93% من سكانها على الصحف والكتب الرقمية، تليها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 82%، ثم الهند التي تضم نحو 450 مليون قارئ إلكتروني.
أما عن الاشتراكات الرقمية المدفوعة للصحف الرقمية، فقد شهدت ارتفاعًا سنويًا ملحوظًا بلغ نحو 20%، كما سجلت «نيويورك تايمز» نحو 10 ملايين مشترك رقمي (2023)، طبقًا لـ(WAN-IFRA).
لماذا تراجع توزيع الصحف المصرية؟
هناك مجموعة من الأسباب التي أدت إلى هروب الجمهور من قراءة الصحف الورقية، مما تسبب في انهيار نسب التوزيع، ويمكن حصرها في
النقاط التالية:
التحول الرقمي وتغير سلوك الجمهور الإعلامي.
ضعف المصداقية وغياب المهنية.
الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكاليف الطباعة.
انسحاب المعلنين واتجاههم إلى المنصات الرقمية.
غياب التدريب وضعف الابتكار وتراجع المحتوى الجاذب.
ضعف شبكات التوزيع والبنية التحتية.
النزوح المؤسسي نحو الإعلام الحكومي.
غياب استراتيجية وطنية لدعم التحول الرقمي في الصحافة.
القيود البيروقراطية والتشريعية.
يضاف إلى ذلك الثورة الرقمية التي أجبرت القارئ على هجر الصحف الورقية والاتجاه نحو الشاشات الرقمية، التي باتت الخيار الأول للأخبار والتسلية، خاصة مع وصول مستخدمي الإنترنت في مصر إلى 70 مليونًا عام 2022، وهو ما جعل الصحف غير قادرة على منافسة سرعة «تويتر» أو جاذبية «تيك توك»، حيث تشير أحدث الدراسات العلمية إلى أن 85% من الشباب تحت 30 عامًا يعتمدون على الهواتف الذكية والمنصات الرقمية كمصدر وحيد للأخبار.
في المقابل، تخلّفت بعض المؤسسات الصحفية المصرية عن مواكبة التطور السريع في بيئة الإعلام الرقمي، سواء من حيث البنية التحتية أو الرؤية التحريرية أو الكفاءات التقنية. فعلى الرغم من التحول الجذري في سلوك الجمهور وتفضيله المتزايد للمنصات الرقمية، لم تنجح هذه المؤسسات في بناء وجود رقمي فعّال أو استراتيجي، بل لجأت بعض الصحف إلى إنشاء منصات رقمية "شكلية" تفتقر إلى التخطيط، وتعاني من ضعف التصميم، وغياب المحتوى الجاذب، فضلاً عن التركيز على تكرار نشر المواد الخاصة بالنسخة الورقية دون إعادة صياغة أو ملاءمة مع طبيعة النشر الرقمي.
كما عجزت معظم الصحف عن الاستثمار في أدوات التحليل الرقمي، أو في منصات إدارة المحتوى الحديثة (CMS)، أو في توظيف الذكاء الاصطناعي في التحرير والتوزيع والاستهداف، وهو ما جعل حضورها على الإنترنت هامشيًا أو تقليديًا في أحسن الأحوال.
كما تعاني تلك المنصات من غياب استراتيجيات جذب الجمهور، مثل تقنيات تحسين محركات البحث (SEO)، أو إدارة الحملات الإعلانية الرقمية، أو استخدام النشرات البريدية الذكية والبودكاست والبث المباشر، ما جعلها خارج دائرة المنافسة مع المواقع الإخبارية المستقلة أو العالمية.
وتُظهر بيانات «التقرير السنوي للحالة الإعلامية» (2023) أن 80% من الصحف لا تملك تطبيقات ذكية، وتعتمد على نسخ PDF جامدة، ما يوسع الفجوة مع الجمهور.
د. حماد الرمحي
خبير التحول الرقمي في الصحافة والإعلام