وهب الله كل إنسان موهبة خاصة، وجعل في كل روح نغمة لا تشبه الأخرى، وكأن الخالق أراد أن تكون الحياة لوحةً من ألوان متفرّدة لا تتكرر، فلكل إنسان بصمته التي تميّزه، وصوته الداخلي الذي يدله على طريقه إن أصغى إليه بقلبٍ واعٍ.
بالرغم من روعة الصانع وعظيم إبداعه في نسج قدرات عباده، وتنوّع مواهبهم في شتى مجالات الحياة، إلا أن كثيرين لا يدركون عمق النعمة التي أودعها الله في ذواتهم. فتمرّ بهم الأيام وهم غافلون عن كنزٍ يسكنهم، وعن طاقةٍ كامنةٍ تنتظر من يكتشفها ويحرّرها من صمتها، ليحيل بها العجز إبداعًا، والاعتياد تفرّدًا.
وهناك كم من شبابٍ مضت أعمارهم وهم يبحثون عن تلك الشرارة التي تضيء دروبهم، عاجزين عن اكتشاف ما أودعه الله فيهم من جمالٍ وقدرة!
الموهبة لا تموت
الموهبة لا تموت، لكنها تحتاج إلى عينٍ تبصرها وإرادةٍ تصقلها لتغدو طاقةً نافعة تثمر خيرًا للإنسان ولمجتمعه.
وهنا نبدأ طرح سؤال مهم وهو هل العمل الجاد يتفوق حقا على الموهبة كما يدعي معظم الناس؟ حتى نبعث برسائل إلى لاعبي كرة القدم في مصرنا الحبيبة ونظهر كيف أصبح محمد صلاح أيقونة عالمية لجيل من اللاعبين الموهوبين؟ وكيف يضيع بعض اللاعبين بسبب عدم وعيهم بموهبتهم؟
مفاهيم خاطئة في الكرة المصرية
في مصر هناك مفاهيم خاطئة لدى بعض المسؤولين في كرة القدم سواء على مستوى الأندية من مدربين ورؤساء مجالس إدارة يتدخلون في عمل المدربين بقطاعات الناشئين أو على مستوى اتحاد الكرة وعدم التخطيط الجيد لاكتشاف المواهب الكروية.
فحين تُهمَل الموهبة.. تضيع كرة القدم بمنتهى البساطة، فالمولى عز وجل خلق الموهبة لتكون بصمةً تميز الإنسان عن غيره، ومنح كل لاعب كرة قدم هدية فريدة لا تُشترى بالتدريب وحده، بل تُصقل بالوعي والرعاية والاهتمام، لكن المؤلم أن نرى في ملاعبنا واقعًا مختلفًا؛ واقعًا يُطفئ نور الموهبة قبل أن يكتمل بريقها.
في كرة القدم المصرية، تترسخ منذ سنوات فكرة خاطئة مفادها أن القوة البدنية هي أساس اللعبة، وأن طول القامة وضخامة الجسد أهم من نعومة اللمسة ودقة التمريرة وبراعة الفكر، وهكذا، تتحول الأكاديميات وقطاعات الناشئين إلى ساحات اختبار للأجسام، لا معامل لصناعة الموهوبين، ويظهر اللاعبين المزورين في أعمارهم السنية.
وهنا أيضا سيظهر تساؤل غاية في الأهمية وهو كم من طفلٍ موهوب طُرد من البساط الأخضر لأن قامته قصيرة أو لياقته ضعيفة؟ وكم من لاعبٍ يمتلك خيالًا كرويًا مدهشًا حُرم من الفرصة لأن المدرب فضّل من "يُكسبه البطولة" على من "يبني له المستقبل"؟
«البراعم والناشئين» قصة حزينة
في مرحلة البراعم والناشئين، لا يُطلب من المدرب أن يرفع الكؤوس، بل أن يزرع الأساس، فهذه المرحلة ليست ميدان منافسة، بل ورشة بناء للغد، ولكن ما يحدث في كثير من أنديتنا هو العكس؛ حيث تُقاس الكفاءة بعدد البطولات، لا بعدد المواهب التي صُنعت، وهو ما يعكس الأنانية المهنية التي تُقدّم مجد المدرب على حساب مستقبل اللاعب.
نتيجة ما يحدث في مصر واضحة للعيان، قطاعات ناشئين لا تُنجب أجيالًا قادرة على حمل قميص الفريق الأول، ومنتخبات عمرية بلا إنجاز يُذكر على الساحة الدولية، ومدربين لا يعرفون شيئًا عن علم التدريب ولا حتى يمتلكون اللباقة في الحديث ويصرحون بتصريحات وكأنهم خبراء ولكن ليسوا في كرة القدم، انما في «قيادة عربات الحنطور أو إصلاح عجلات الكاوتش»
كيف نُبدع ونحن نقتل الإبداع في مهده؟
الكرة ليست لعبة عضلات، بل لعبة عقلٍ ومهارةٍ وتفكيرٍ وسرعة قرار، من يُتقن الاستلام والتسليم، ومن يرى الملعب بعينٍ لا يراها الآخرون، هو اللاعب الذي سيبقى حين يرحل الجميع، فالبدن وحده قد يربح مباراة، لكن الموهبة وحدها تصنع التاريخ، ويجب أيضا أن يكون هناك وعي وإدراك من اللاعب وولي أمره أنه يمتلك موهبة ولابد من تنميتها.
هل العمل الجاد يتفوق على الموهبة؟
هناك من يردد أن العمل الجاد يتفوق على الموهبة، وكأنهم يرفعون من شأن الجهد على حساب الفطرة، أو يعلنون انتصار العرق على الإلهام.
في العادة، كل فكرة تتناقلها الأغلبية كأنها حقيقة مطلقة، تحمل في طيّاتها شيئًا من الزيف، فالحقيقة لا تحتاج إلى صخب، بل إلى بصرٍ نافذ وعقلٍ متأمل.
إن العمل الجاد، مهما بلغ من قوة، لا يستطيع أن يهزم الموهبة، لكنه قادر أن يصنع منها معجزة، في حالة إذا كان العمل الجاد لتنمية تلك الموهبة.
العمل الجاد ليس خصمًا للموهبة، بل هو خادمها الأمين، فالموهبة من غير تعب وجهد بتضعف وتختفي، والتعب من غير موهبة بيضيع من غير نتيجة.
محاولة السمكة تسلّق الشجرة.. وأينشتاين لاعب كرة
من يريد أن يرى مثالا حيًا عليه أن ينظر إلى «ألبرت أينشتاين»، ذاك الشاب الذي كتب في عامٍ واحدٍ أربعة أبحاث غيّرت وجه العلم والبشرية.
لم يكن مجرد مجتهدٍ يسهر الليالي، بل كان موهوبًا بالفطرة في فهم ما يعجز الآخرون عن تخيله، عمله الجاد لم يكن سعيًا لتحدي الموهبة، بل لتغذيتها حتى تنضج وتثمر.. تخيّل لو أنه بدلاً من الفيزياء اختار أن يُصبح لاعب كرة قدم! لكان ربما عاش حياة عادية، لأن الجهد وحده لا يخلق العبقرية، بل يوقظها حين تكون نائمة.
السر الحقيقي في الحياة ليس أن تتعب أكثر من الآخرين، بل أن تعرف في أي طريق يستحق تعبك.. حين تجد نفسك قادرًا على إنتاج نتائج عظيمة بمجهود أقل، فاعلم أنك قد لمست موهبتك، أما إذا كنت تبذل جهدًا مضاعفًا لتصل إلى نتائج متواضعة، فربما أنت في المكان الخطأ.
العمل الشاق في غير مجاله يشبه محاولة السمكة تسلّق الشجرة.
قال أينشتاين ذات يوم: «الجميع عباقرة، لكن إن حكمت على السمكة بقدرتها على تسلق شجرة، فستقضي حياتها كلها معتقدة أنها غبية ». السمكة خُلقت لتسبح، والأسد خُلق ليفترس، والنسر خُلق ليحلق، لا أحد منهم يمكنه أن يتفوق على الآخر في ميدانه الطبيعي، لكن كلٌّ منهم عظيمٌ في موهبته الخاصة، وهكذا الإنسان لا يمكنه أن ينجح في كل شيء، لكنه يستطيع أن ينجح ويتفوق في ما خُلق له.. فالموهبة ليست زينة نُولد بها، بل بوصلة ترشدنا إلى الطريق الصحيح.
ابحث عن موهبتك كما يبحث العطشان عن الماء، فإذا وجدتها فابذل جهدك لترويها بالعمل والانضباط.. أما أن تحاول أن تهزم الموهبة بالكدّ وحده، فذلك صراع خاسر منذ البداية.
العمل الجاد لا يتفوق على الموهبة، بل العمل الجاد في حضن الموهبة هو ما يصنع الخلود، فابدأ من نفسك، اكتشف هديتك، صُنها، وطوّرها، فربما تكون أعظم موهبتك هي قدرتك على اكتشاف ذاتك قبل فوات الأوان.
الفوز بالكؤوس الصفيح والقعدة على الدكة وقتل الموهبة
ولكل لاعب موهوب، لا تفقد الأمل، فالطريق طويل لكنه يستحق، اجتهد على نفسك، قوِّ جسدك كما تصقل مهارتك، وواصل الإيمان بأن ما تملكه من موهبة هو وعدٌ من الله لا يضيع.
مشروعنا الحقيقي ليس في الفوز بالكؤوس الصفيح، بل في إخراج لاعبٍ يفهم اللعبة، يتطور بالعقل قبل الجسد، ويصل إلى الفريق الأول جاهزًا بالفكر، وراسخًا بالمهارة.
ولأن الأمل لا يموت، يبقى الرهان على الجيل الجديد من المدربين والمحللين الشباب، الذين يؤمنون بأن الموهبة لا تُستبعد، بل تُنمّى.
ورسالة لكل وليّ أمر، لا تفرح بانضمام ابنك إلى نادٍ كبير إن كان حبيس الدكة، فرحك الحقيقي أن تراه يلعب ويتطور ويكتسب خبرة الميدان، فالمشاركة هي الطريق، والاحتكاك هو المعلم الأول.
مأساة اللاعب الذي لم يستوعب موهبته
هناك أيضا ظاهرة اللاعبين الذين لم يحتملوا النجاح، وتضيع الموهبة بين الغرور والجهل بذاته، حيث يصبح لاعب الكرة مراهقًا، حين يظن اللاعب أن الشهرة تغنيه عن النضج، حين تسبق الأضواء الوعي.. فتكون مأساة اللاعب الذي لم يستوعب موهبته، والأمثلة كثيرة في الكرة المصرية فالأزمة تكون في وعي بعض اللاعبين فتتحول الموهبة التي تحمل كنز حقيقي إلى خطر يهدد الشخص نفسه والمجتمع ككل.
المسؤوليّة والعلاقات
ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحل بها اللاعب الموهوب أن يكون شخص مسؤول حيث تعتبر المسؤوليّة الصفة الأساسيّة من صفات النجاح، وذلك لأنّ الإنسان الناجح لديهِ قدرةً كبيرة على تحمّل كامل المسؤوليّة عن كل الأعمال التي يقوم بها، وإنّ تحملك للمسؤوليّة هو الطريق الوحيد الذي سيجعل الآخرين يثقون بموهبتك وقدراتك.
وأيضا العلاقات تؤثر على الموهبة أما بشكلٍ سلبي أو بشكلٍ إيجابي، لهذا عليك أن تُعيد تقييم علاقتك، كأن تبتعد عن مخالطة من يغتاب، ومن يشكو، ومن ينتقد، ومن يتباكى، ومن يحسد، وأن تختلط بالشخص الذي يشاركك أفراحك، والذي يمنحك الأمل، الفرح، والابتسامة، وفي النهاية نسعى بالجهد، والله ولي التوفيق.