الإثنين 27 أكتوبر 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

قد يظن البعض أن الفقد لا يحدث إلا حين تنقطع العلاقة وينتهي اللقاء، غير أن هناك فقدًا أعمق وأكثر قسوة، حين يستمر البقاء بلا مشاعر، ويصبح الحضور شكليًا، والدفء مجرّد ذاكرة بعيدة. ذلك هو الفراغ العاطفي، الذي يتسلل بصمت بين طرفين ما زالا يتقاسمان المكان، لكنهما لم يعودا يتقاسمان الشعور. 

تبدأ الحكاية غالبًا بلحظات عابرة لا ينتبه لها أحد، انشغال مؤقت، حوار مؤجل، عتاب يُسكت لتجنب الجدال، ثم تتكرر المسافة الصغيرة حتى تصبح عادة. ومع الوقت، يظن كل طرف أن الآخر هو البادئ بالابتعاد، بينما الحقيقة أن كليهما توقّف عن محاولة الاقتراب.

الفراغ العاطفي لا يقتحم العلاقة فجأة، بل يتسلل بخطوات ناعمة تحت مظلة “الظروف”. العمل، المسؤوليات، الروتين، كلها مبررات منطقية في ظاهرها، لكنها تغطي على تراجع الاهتمام والإنصات والمشاركة. وحين يغيب الحوار الصادق، تبدأ المشاعر بالانطفاء ببطء، حتى تصبح العلاقة كبيت يُضاء بنور خافت لا يكفي لرؤية الوجوه بوضوح. لا أحد يصرّح بما يؤلمه، ولا أحد يمد يده لترميم ما تصدّع، فيستمر الاثنان في الدوران داخل دائرة الصمت، كلٌ يظن أن الوقت كفيل بإعادة ما فقد، بينما الوقت في الحقيقة يزيد الجدار سمكًا بينهما.

ومن أبرز مظاهر هذا الفراغ، أن يتحدث الطرفان كثيرًا عن كل شيء إلا عن نفسيهما، أن يتشاركا اليوميات دون دفء، وأن يتحول السؤال "كيف كان يومك؟" إلى مجاملة فارغة لا انتظار حقيقي لإجابتها. يظهر أيضًا في انعدام التفاعل العاطفي، حين لا يعود أحدهما متحمسًا لسماع الآخر، أو يشعر بحاجة لأن يُفهم أو يُحتوى. فالعلاقة لا تموت حين يتوقف الكلام، بل حين يفقد الكلام معناه، وحين لا تعود التفاصيل الصغيرة تثير في النفس أي نبض.

الأسباب متعددة، لكن جوهرها واحد: التوقف عن “الوعي بالعلاقة”، فحين يعتاد كل طرف وجود الآخر، يظن أنه مضمون، فيتراجع الاهتمام تدريجيًا دون نية سوء، حتى يُستبدل الشغف بالاعتياد، والتفاعل بالروتين، والعاطفة بالواجب. 

كما تلعب الخيبات الصغيرة دورًا كبيرًا، تلك اللحظات التي شعر فيها أحدهما بأنه لم يُفهَم، أو قوبل بالاستهانة بدل الاحتواء، أو اضطر للصمت كي يتجنب نزاعًا. كل مرة كهذه تترك أثرًا لا يُرى، لكنه يتراكم حتى يصبح مسافة عاطفية يصعب عبورها.

ومن المظاهر التي تؤكد حضور هذا الفراغ أيضًا، شعور أحد الطرفين بأنه وحيد رغم وجود الآخر بجانبه، وإحساسه بأن العلاقة أصبحت عبئًا عاطفيًا بدل أن تكون مصدر أمان، فيبدأ في بناء عوالم داخلية بديلة: أصدقاء، عمل، اهتمام مفرط بالتفاصيل الثانوية… فقط ليملأ مساحة الشعور التي كانت يومًا مملوءة بالحب. 

هذه المرحلة هي الأخطر، لأن الطرفين يبدوان بخير ظاهريًا، بينما من الداخل يعيشان حالة عزلة متبادلة لا يُفصح عنها أحد.

النتائج النفسية لهذا الفراغ قاسية، لأنها لا تترك أثرها على العلاقة فقط، بل تمتد إلى الذات، فالشخص الذي يعيش علاقة خالية من التواصل العاطفي يفقد تدريجيًا ثقته في قدرته على أن يُحَب، ويبدأ في الشك في قيمته وجدواه، ويُصاب بما يشبه الخدر الشعوري، يصبح أقل انفعالًا، أقل اهتمامًا، وأكثر ميلًا للانعزال أو اللامبالاة، ومع استمرار الحال، يفقد الطرفان القدرة على استدعاء مشاعر الدفء حتى لو حاولا، لأن التآلف العاطفي يحتاج إلى تكرار المودة، لا إلى تكرار الغياب.

غير أن الوعي بهذا الفراغ قد يكون بداية النجاة منه، فالمشكلة ليست في انطفاء المشاعر مؤقتًا، بل في تجاهل الإشارات التي تسبق الانطفاء. الإصغاء الصادق، والاعتراف بالتعب، والرغبة المشتركة في إعادة التواصل، يمكن أن تُعيد للحب روحه ولو بعد فتور طويل، فالعلاقة التي تقوم على النضج لا تخلو من المسافات، لكنها لا تسمح لها أن تتحول إلى هوة.

فالحب لا يموت فجأة، لكنه يضعف حين يُترك دون رعاية، وإن كان الجسد يحتاج إلى هواء ليعيش، فالعلاقة تحتاج إلى مشاركة ليبقى فيها القلب نابضًا.
العلاقات لا تنتهي حين يغيب أحدهما، بل حين يبقى الاثنان... ولا يشعر أحدهما بوجود الآخر.

تم نسخ الرابط