في طريق النجاح، يظن البعض أننا نحمل المجد على أكتافنا بثباتٍ وفخر، بينما في الحقيقة نحمل أثقالًا من الوحدة لا تُرى. النجاح في ظاهره ضوءٌ يخطف الأبصار، لكنه في باطنه مساحة من العزلة تتسع كلما زاد البريق. فكل خطوة نصعدها تجعل المسافة أبعد بيننا وبين من كنا يومًا قريبين منهم، وبين النسخة القديمة التي كانت تعرف كيف ترتاح دون أن تبرر، وتحب دون أن تُقارن، وتعيش دون أن تُراقب.
النجاح لا يمرّ دون ثمن. هناك دائمًا شيء يُدفع في الخفاء: لحظة راحة تُؤجَّل، أو علاقة تذبل بصمت، أو قلب يملّه الانتظار خلف جدول مزدحم بالواجبات. مع الوقت، يتصلب الجزء الأرقّ من أرواحنا شيئًا فشيئًا، فنصبح أكثر انضباطًا وأقل عفوية، أكثر وضوحًا وأقل دفئًا. نبدو في نظر الآخرين كما لو أننا وصلنا، بينما نحن في الحقيقة نبتعد.
النجاح يمنحنا اعترافًا من العالم، لكنه أحيانًا يسلبنا القدرة على البقاء في دفء اللحظة. نتحول دون قصد إلى أشخاص يقيسون كل شيء بالإنجاز، حتى المشاعر. نحب بنصف وعي، ونرتاح بنصف قلب، ونضحك ونحن نفكر بما يجب أن نفعله بعد قليل. حتى الفرح يصبح جزءًا من خطة لا مساحة فيها للارتجال.
وحين يمتزج النجاح بالعلاقات الإنسانية، يصبح الثمن أكثر تعقيدًا. فالرجل الناجح، المنغمس في سباقه مع الزمن، قد يظن أنه يفعل كل ذلك ليؤمّن لمن يحب حياةً أفضل، لكنه لا ينتبه أن هذا السعي المستمر يسحب منه القدرة على الإصغاء، على الوجود الكامل، على مشاركة اللحظة البسيطة التي كانت تكفي لتُبقي الحب حيًا. ومع الوقت، تصبح المرأة التي أحبّها يومًا تشعر بأنها تقف أمام جدارٍ من حضورٍ مادي وغيابٍ وجداني، فتتعلم الصمت بدل الشكوى، والمسافة بدل العتاب.
أما المرأة الناجحة، فهي تدفع ثمنًا مختلفًا، لا يقل قسوة. فكل تألّق يرفعها في نظر العالم قد يجعلها غريبة في عين من تحب. يصبح نجاحها سلاحًا ذا حدّين؛ يُثير الإعجاب وشيئًا من الحذر في الوقت نفسه. بعض الرجال يشعرون أمام نجاح المرأة بتهديدٍ خفي، وكأن في تألقها تذكيرًا بعجزهم عن مجاراتها. وهنا تبدأ المعركة الصامتة بين رغبتها في أن تُحتوى دون أن تُختزل، ورغبته في أن يظلّ هو المركز. فتفقد العلاقة توازنها، ويصبح الحب ساحة اختبارٍ غير معلن، يدفع فيها كلاهما ثمن سوء الفهم العاطفي الذي يصاحب الطموح حين يتجاوز قدرة الآخر على استيعابه.
هكذا، يُختبر النجاح لا في لحظات الصعود، بل في قدرتنا على ألا نخسر قلوبنا ونحن نعلو. فالتألق الحقيقي ليس أن نصل إلى القمة وحدنا، بل أن نجد هناك من نحبهم إلى جوارنا. أن نظل قادرين على الحب رغم الزحام، وعلى البساطة رغم الارتفاع، وعلى العطاء دون أن نتحول إلى آلات منضبطة لا تشعر إلا بالإنجاز.
النجاح الجميل هو الذي لا يطفئ فينا الحاجة إلى الآخرين، ولا يبدل ملامحنا الداخلية تحت ضوء التصفيق. فالقوة الحقيقية ليست في تحقيق المزيد، بل في الحفاظ على الجزء الإنساني الذي يجعلنا نشعر ونخطئ ونحب ونسامح. النجاح الذي يعزلنا ليس نجاحًا، بل قشرة باردة من الضوء تخفي تحتها تعبًا لا يُقال.
وفي النهاية، لعلّ أجمل ما يمكن أن نحتفظ به ونحن نسعى نحو القمة، هو إنسانيتنا، تلك التي تمنحنا المعنى قبل المجد، والدفء قبل الضوء.
فليس كل ما يلمع نجاحًا، فبعض الأضواء تُطفئ ما فينا من حياة."