السبت 04 أكتوبر 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

"اعتزل ما يؤذيك وإن قلّ".. عبارة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنها تبدو وكأنها وُلدت لعصرنا نحن أكثر من زمن قائلها. في عالم متخم بالضغوط النفسية والاجتماعية، ومثقل بصراعات الحياة اليومية، تصبح هذه الكلمات ليست مجرد حكمة دينية أو أخلاقية، بل رؤية استراتيجية لإدارة الذات وحماية الأمن النفسي والجسدي والعقلي.

في السياسة كما في الحياة الشخصية، الأذى لا يأتي فقط في صورة ضربة مباشرة، بل يتجسد في الاستنزاف البطيء: كلمة سامة متكررة، علاقة فارغة، إدمان شاشة، أو نمط حياة غير صحي. وهنا تكمن عبقرية المقولة؛ فهي دعوة مبكرة لممارسة ما نسميه اليوم بـ "الوقاية الاستباقية"، أي تحييد مصادر الخطر قبل أن تتحول إلى تهديد وجودي.

على المستوى النفسي

الاعتزال لا يعني الانسحاب من العالم، بل يعني أن تضع حدودًا واضحة مع كل ما يستهلك طاقتك. في زمن الأخبار العاجلة والمحتوى المكرر، أصبح العقل مثقلًا بفيض من القلق الجماعي. هنا، الاعتزال هو فن الانتقاء: أن تختار ما يدخل إلى وعيك، وما تُبعده عن دائرة اهتمامك.

على المستوى الجسدي

الأذى الجسدي في عصر الرفاهية ليس ندرة الطعام، بل وفرة ما يضرّ. التدخين، الأكل السريع، السهر الطويل، كلها مظاهر أذى متسترة في صورة لذة عابرة. الاعتزال هنا ليس حرمانًا بل تحررًا، تحرر من عبودية العادة التي تستهلك الجسد ببطء.

على المستوى العقلي

العقل ليس صندوقًا مفتوحًا لأي فكرة تُلقى داخله. الاعتزال في جانبه الفكري يعني مقاومة التلوث المعرفي: الأخبار المضللة، الجدالات العقيمة، والمعلومات المكرورة التي تشغل الذهن عن التفكير النقدي والإبداعي. في عالم يتباهى بوفرة المعلومة، الاعتزال هو حماية للعقل من الضوضاء.

على المستوى الاجتماعي

لا يقل الجانب الاجتماعي خطورة؛ فالمجتمع اليوم مليء بعلاقات استهلاكية، يتبادل فيها الناس الطاقة السلبية أكثر مما يتبادلون الدعم. الاعتزال هنا هو إعادة هندسة شبكة العلاقات: أن تختار من يُعزّز قيمك ويشاركك الأمل، وتضع مسافة مع من يستنزف وقتك وكرامتك.

بين الفرد والمجتمع

قد يُقال إن الاعتزال انطواء، لكنه في جوهره تأسيس للقوة. الفرد الذي يحمي نفسه من الأذى يصبح أكثر قدرة على العطاء. والمجتمع الذي يتبنى هذا المبدأ يضمن سلامة نسيجه من الاستنزاف النفسي والاجتماعي. إنها فلسفة تشبه استراتيجيات الأمن القومي: لا تنتظر الخطر حتى يداهمك، بل تعزل نفسك عن مسبباته قبل أن يشتد.

بين الإسلام وعلم النفس الحديث

اللافت أن الفلسفة الإسلامية والعلوم النفسية المعاصرة تلتقيان في هذه النقطة. الإسلام يوجّه الإنسان إلى تجنّب مواطن الضرر: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ويحث على مبدأ الوقاية قبل العلاج. أما علم النفس الحديث فيؤكد أهمية "العلاقات الصحية"، و"إدارة الضغوط"، و"العناية بالذات" (Self-care) كخطوط دفاع أساسية لحماية الصحة النفسية والعقلية. ما نراه في كتب العلاج السلوكي المعرفي اليوم، قد لخّصه التراث الإسلامي بعبارة واحدة: "اعتزل ما يؤذيك".

في النهاية، هذه المقولة ليست مجرد حكمة عابرة، بل مشروع حياة. إنها تذكير بأن القوة لا تكمن في المواجهة الدائمة، بل أحيانًا في القدرة على الانسحاب الواعي، والابتعاد الاستراتيجي عن مصادر الاستنزاف، حفاظًا على الإنسان والمجتمع معًا.

بقلم: د. محمد فريد إبراهيم – دكتور الاستراتيجية والأمن القومي

تم نسخ الرابط