الأحد 28 سبتمبر 2025
الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

 في كل علاقة إنسانية، سواء كانت علاقة حب أو صداقة أو حتى شراكة مهنية، تظهر الخلافات كجزء طبيعي من التباين بين شخصين لكل منهما أفكاره وتجاربه وماضيه المختلف، لكن ما يجعل الخلاف يتحول من مساحة حوار إلى ساحة حرب هو ذاك الإصرار العنيف على أن يخرج أحد الطرفين فائزًا بأي ثمن، إنها الرغبة الدفينة في الانتصار، التي قد تبدو في ظاهرها دفاعًا عن حق أو إثباتًا للحقيقة، لكنها في العمق معركة خاسرة للطرفين، مهما بدا أحدهما منتصرًا في اللحظة.

الإصرار على الانتصار لا يولد فجأة. غالبًا ما يتغذى على مخاوف دفينة: خوف من فقدان السيطرة، أو من الظهور بمظهر الضعيف، أو من أن يُفسّر الصمت على أنه هزيمة. لذلك، يمسك أحد الطرفين بوجهة نظره كمن يتمسك بطوق نجاة، رافضًا أي تراجع أو تنازل. يرفع صوته أحيانًا، ويستحضر كل حججه وأدلته، فقط ليخرج في النهاية بعبارة “كنت على حق”. لكن ما جدوى أن تكون على حق إذا خسرت دفء العلاقة أو سلامها؟

في لحظات الجدال، يغيب عن ذهن كثيرين أن العلاقة ليست ساحة محكمة، وأن الحب أو المودة لا يقاسان بقدرة أحدهما على “إفحام” الآخر، فالخلاف الصحي هو الذي يفتح بابًا للفهم، لا الذي يغلق القلب وراء جدار من العناد. ومع ذلك، نجد أنفسنا أحيانًا أسرى لفكرة الفوز، كأن كل نقاش هو اختبار لقيمتنا أو لذكائنا، وكأن خسارة الجدل تعني خسارة الذات.

لكن الحقيقة التي نتغافل عنها هي أن كل انتصار في خلاف يحمل في داخله هزيمة خفية. الطرف الذي “يفوز” بالكلمات يخسر أحيانًا ثقة شريكه أو احترامه، والطرف الذي “يخسر” في الظاهر يراكم في قلبه جروحًا صامتة، تخرج لاحقًا في شكل برود أو انسحاب. وهكذا، يصبح كلاهما مهزومًا: الأول لأنه ظن أنه كسب معركة، والثاني لأنه لم يجد مساحة آمنة ليُسمع صوته دون خوف من القمع أو السخرية.

الإصرار على الانتصار يسرق من العلاقة أهم ما تحتاجه لتعيش: الأمان العاطفي. حين يشعر أحد الطرفين أن كل كلمة ستُستخدم ضده، يتعلم أن يختبئ خلف الصمت أو المجاملة. فلا يعود الحوار مساحة حرة للتعبير، بل ميدانًا للمناورة. ومع الوقت، يتحول الخلاف إلى لعبة شد حبل لا تنتهي: كلما شدّ طرف، ازداد الآخر عنادًا، حتى ينقطع الحبل في لحظة غير متوقعة.

ويري البعض أن هذا الميل إلى الفوز بأي ثمن ليس مجرد اختيار واعٍ، بل هو استجابة قديمة متجذّرة فينا. فالعقل يفسّر الخلاف وكأنه تهديد للهوية أو للمكانة، فيطلق آليات دفاعية تلقائية: الجدال، رفع الصوت، التمسك بالرأي، وربما حتى الإيذاء اللفظي. لكن ما يغيب عن إدراكنا هو أن العلاقة ليست خصمًا، وأن الشريك أو الصديق ليس عدوًا يجب إسقاطه، بل إنسان يقف معنا على الضفة نفسها وإن اختلفت وجهات النظر.

ولعل أكثر ما يجعل الإصرار على الانتصار مؤذيًا هو أنه يبدد لحظات كان يمكن أن تكون فرصة للتقارب. فكم من نقاش بدأ بسوء فهم بسيط، وانتهى بجرح كبير لأن أحدهما لم يعرف كيف يتراجع خطوة. وكم من حب قوي ذبل لا لأنه فقد المشاعر، بل لأنه اختنق في معارك “من على حق”. هنا ندرك أن الانتصار الحقيقي ليس في إسكات الآخر، بل في إنقاذ ما يربطنا به.

الحل يبدأ من لحظة وعي بسيطة: إدراك أن التنازل ليس هزيمة، بل أحيانًا هو أعلى درجات القوة. أن تقول “ربما أنت محق” أو “دعنا نلتقي في منتصف الطريق” لا يعني أنك ضعيف، بل يعني أنك تضع العلاقة فوق الأنا. فالقيمة الحقيقية للحوار ليست في إثبات من الأذكى أو الأقدر على الجدل، بل في الوصول إلى مساحة مشتركة تحفظ كرامة الطرفين.

يمكن لكل منا أن يتذكر مواقف قريبة تؤكد هذه الحقيقة. كم مرة خرجت من خلاف منتصرًا في الكلام لكن مثقلاً بالندم؟ وكم مرة اخترت الصمت أو الابتسام، فشعرت بسلام أكبر من أي برهان لفظي؟ إنها تلك اللحظات التي تكشف أن القلوب تربح حين تتراجع الأنا.

الإصرار على الانتصار يستهلك الطاقة ويزرع بذور المرارة. الطرفان يظنان أنهما يتصارعان على فكرة، لكن الحقيقة أنهما يتصارعان على الحب ذاته. وكلما ارتفع صوت العناد، تضاءلت المساحة التي يمكن أن يجلسا فيها معًا بلا خوف.

في النهاية، علينا أن نتذكر أن الخلافات ستظل جزءًا من أي علاقة حية، لكن مصيرها يتحدد بطريقة إدارتها. فمن يصر على الانتصار يربح لحظة من الكبرياء ويخسر سنوات من المودة، أما من يعرف متى يصمت ومتى يتنازل، فهو من يحافظ على المعنى العميق للعلاقة. الانتصار الحقيقي ليس أن تقول “أنا على حق”، بل أن تخرج من الخلاف وأنتما ما زلتما معًا، والقلوب ما زالت قادرة على أن تختار بعضها في كل مرة.

موقع الأيام المصرية، يهتم موقعنا بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، ونقدم لكم خدمة ومتابعة شاملة ومجموعة كبيرة من الأخبار داخل الأقسام التالية، أخبار، رياضة، فن، خارجي، اقتصاد، الأيام TV، حوادث، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، أخبار مصر، سعر اليورو، سعر العملات ، جميع الدوريات.

تم نسخ الرابط