
خيم الحزن على شواطئ الإسكندرية، وغرقت معه قلوب المصريين جميعًا حين ابتلعت الأمواج 37 زهرة من بناتنا، بين شهيدات غرقًا ومصابات يصارعن الموت في المستشفيات.
ست فتيات انتقلت أرواحهن إلى بارئها، وثلاث عشرة أخرى في حالة حرجة، بينما ترقد ثماني عشرة فتاة تحت رعاية طبية دقيقة، والأهالي ما بين فاجعة فقدٍ وأمل ضائع في النجاة.
كان المشهد قاسيًا، وكأن البحر لم يكتفِ بأن يبتلع أجسادًا بريئة، بل ابتلع معه أحلام أسر كاملة، لتتحول المصايف التي يفترض أن تكون متنفسًا للفرح، إلى ما يشبه "مصايف الموت".
أتوجه بخالص العزاء لأسر الفتيات، سائلاً الله الكريم أن يتغمد شهيداتنا بواسع رحمته، وأن يلهم ذويهن الصبر والسلوان، لكن العزاء لا يكفي، والدعاء وحده لا يشفي جراح وطن ينزف بضحايا الإهمال كل عام، فالحادث لم يكن قدرًا محتومًا بقدر ما كان نتيجة مباشرة لتقصير إداري وقانوني واضح.
المحافظون بمقتضى القانون رقم 43 لسنة 1979 الخاص بالإدارة المحلية هم المسؤولون مباشرة عن تنظيم ورقابة المصايف والشواطئ، وهم الذين يقع على عاتقهم وضع الضوابط والرقابة الصارمة التي تضمن سلامة المواطنين.
فما الذي يمنع إلزام كل شاطئ بخط تماس يمنع تجاوزه حفاظًا على الأرواح؟ أين معدات الإنقاذ الحديثة؟ أين الأطباء والمسعفون الذين يجب أن يكونوا متواجدين في كل لحظة على الشواطئ؟ أين الأفراد المدربون على الإنقاذ بدلًا من مجرد موظفين يجلسون على المقاعد بلا حول ولا قوة؟
لقد تحولت شواطئ الإسكندرية من اثني عشر شاطئًا مجانيًا إلى خمسة فقط، بينما اندفع المستثمرون ليستحوذوا على معظمها بتذاكر تصل إلى مئة جنيه في "مصايف الغلابة".
ومع ذلك، لا إنقاذ، ولا مراقبة، ولا التزام بضوابط السلامة. بل ترك المواطنون العاديون ينقذون الغرقى بأيديهم، في مشهد يعكس فشل الإدارة المحلية، وعجزها عن أداء أبسط واجباتها.
إنها ليست مأساة الإسكندرية وحدها، فمشهد غرق المواطنيين يتكرر في دمياط وبورسعيد وسيناء ومطروح ورأس البر وجمصه والسيناريو نفسه: شواطئ بلا تجهيزات، مراقبون بلا سلطة، معدات غائبة، إنقاذ لا يأتي إلا بعد أن تزهق الأرواح.
بل إن الكارثة تتضاعف حين تنتشر المخدرات والخمور والشيش على الشواطئ، وتُفرض إكراميات ورسوم غير قانونية حتى على دورات المياه، وكأن المواطن يُبتز في حياته ومماته معًا.
إن إنقاذ أرواح الناس لا يحتاج إلى خطب أو شعارات، بل إلى قرارات صارمة وإرادة حقيقية، كما أن استقالة قيادات الإدارة المركزية للمصايف بالاسكندرية لم تعد مطلبًا شعبيًا فحسب، بل صارت واجبًا وطنيًا، فالمسؤولية في هذه الحوادث واضحة، والتقصير بيّن، والدماء لا تقبل التبرير.
ألا يستحق أبناؤنا وبناتنا أن يجدوا على شواطئ وطنهم ما يحميهم من الغرق؟ ألا تستحق مصر أن تُدار شواطئها بعقلية تحفظ أرواح مواطنيها قبل أن تفكر في بيع التذاكر ورفع أسعار الشاليهات؟ إن أرواح الفتيات الست ليست أرقامًا في نشرة أخبار، بل جرس إنذار صارخ بأن الإهمال الإداري يقتل، وأن الاستهتار بحياة الناس أخطر من أي موجة عاتية.
لقد آن الأوان أن نعيد النظر في إدارة الشواطئ والمصايف من جذورها، فسلامة المصريين ليست ترفًا، بل حق أصيل، وأي تفريط فيه جريمة لا تُغتفر.