
في زمن تتصاعد فيه الأزمات وتشتعل فيه هموم المواطن اليومية، لا يكفي أن يكون الوزير مجرد خبير تكنوقراط أو مدير حسابات بارع، بل المطلوب أن يكون مسؤولاً سياسيًا محنكًا، يقرأ نبض الشارع بذكاء، ويحتوي الأزمات بوعي، ويضبط كلماته قبل قراراته.
فالوزير السياسي هو الذي يدرك أن الكلمة قد تشعل فتيل أزمة، أو تطفئ نيران غضب الشارع، بينما يظل الوزير القادم من خلفيات مالية أو إدارية بحتة أسير الأرقام والنظريات، بعيدًا عن الواقع الاجتماعي الذي يئن تحت وطأة الأسعار والمعاناة.
التجارب المتكررة أثبتت أن غياب الحس السياسي عند بعض الوزراء جعل تصريحاتهم عبئًا على الدولة بدلًا من أن تكون حلولًا للمواطنين، فالتاريخ يعلمنا أن الكلمة في لحظة أزمة قد توازي في أثرها قرارًا وزاريًا مصيريًا، وأن الوزير الذي يفتقد البوصلة السياسية يتحول إلى جزء من المشكلة لا إلى ركن من أركان الحل.
وهنا يبرز السؤال الحتمي: هل يجوز أن يستمر وزراء بلا وعي سياسي أو رؤية مجتمعية في إدارة ملفات ملتهبة مثل الأسعار والتموين والاستثمار، بينما المواطن ينتظر من الحكومة يدًا حازمة وقرارًا مطمئنًا لا تصريحًا عابرًا يزيد الغضب اشتعالًا؟
التحول السياسي الغائب عن وزارة التموين
أثار تصريح الدكتور شريف فاروق، وزير التموين والتجارة الداخلية، جدلًا واسعًا بعدما أعلن أن وزارته "لا تملك سلطة إلزام التجار بخفض الأسعار"، مكتفيًا بالحديث عن "حثهم على الالتزام بآليات السوق".
تصريح بدا صادمًا للرأي العام لأنه يتناقض مع أبسط مهام وزارة تموينية يفترض أن تكون في قلب الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار.
المشكلة هنا ليست في التصريح وحده، بل في الرؤية التي يحملها الوزير القادم من قطاعات مصرفية وربحية، مثل البنوك والبريد، إلى وزارة خدمية بامتياز.
فالفارق كبير بين إدارة مؤسسة مالية هدفها الربح وبين وزارة مطلوب منها حماية المستهلك وتخفيف أعباء المعيشة.
إن غياب هذا الوعي السياسي جعل حديث الوزير أقرب إلى النصيحة أو الاستجداء منه إلى القرار الحكومي الملزم.
الخطير أن هذا التصريح جاء على النقيض من تصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسي التي أكدت ضرورة خفض الأسعار ومراعاة ظروف المواطنين، وكذلك تصريحات رئيس الوزراء حول عدم توافق الأسعار الحالية مع مؤشرات الأداء الاقتصادي الجيدة.
المفارقة هنا أن القيادة السياسية تضغط باتجاه حماية المواطن، بينما الوزير المعني يتحدث بلغة السوق الحرة التي لا تراعي واقع المواطن البسيط.
التحول السياسي المفقود في خطاب الاستثمار
لم يكن وزير التموين وحده من أثار الجدل، فوزير الاستثمار والتجارة الخارجية الدكتور حسن الخطيب صرّح هو الآخر بأن "مصر أصبحت في حتة تانية ودولة مختلفة منذ مارس الماضي". تصريح فضفاض لا يحمل أي معنى محدد، وترك المواطنين في حيرة: ما هي هذه "الحتة التانية"؟ وهل يقصد بها تحسنًا اقتصاديًا حقيقيًا أم مجرد شعار دعائي؟
الوزير المخضرم سياسيًا كان الأجدر به أن يقدّم بالأرقام والبيانات خططًا واضحة لجذب الاستثمارات وشرح آثارها على حياة المواطنين، بدلًا من عبارات إنشائية فضفاضة قد تُفسَّر بالسخرية. فالتاريخ السياسي مليء بوزراء تركوا بصمتهم عبر أفعالهم وإنجازاتهم لا من خلال تصريحات عابرة أثارت الجدل ثم اختفت.
تصريحات من هذا النوع لا تعكس وعيًا بحساسية المرحلة ولا تدرك حجم الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المواطن.
الوزير الذي يتحدث بلسان بعيد عن الواقع لا يساعد على حل الأزمات، بل يعمّق الفجوة بين المواطن والحكومة وهذا ما يجعل الحاجة ملحّة اليوم لعودة الوزراء السياسيين القادرين على صياغة خطاب عقلاني وواقعي يوازن بين ضرورات الاقتصاد ومتطلبات المجتمع.