
المراهقة ليست مجرد مرحلة عابرة، بل هي ولادة جديدة للإنسان، يولد فيها الابن أو الابنة من رحم الطفولة ليبدأ رحلة الاكتشاف نحو النضج والرشد.
إنها المرحلة التي تختبر فيها الأم صبرها، وحكمتها، ودفء قلبها، حين ترى صغيرها يتغير أمام عينيها، فيمزج بين براءة الأمس واندفاع الغد.
في هذه المرحلة، تتحول الأم من راعية إلى مرشدة، ومن معلمة إلى صديقة، ومن حامية إلى شريكة في رحلة الحياة.
فالمراهق في جوهره ليس متمردًا ولا غريبًا، بل هو زهرة تنفتح على ضوء جديد، تبحث عن الحرية والهوية والانتماء، وهنا يظهر الدور الأهم للأم؛ أن تكون الحضن الذي يخفف قلقه، والبوصلة التي توجه خطواته، والجسر الآمن الذي يعبر عليه من الطفولة إلى الرشد دون أن يفقد ذاته أو قيمه.
تقلب الانفعالات وصرخة البحث عن الحرية
من أبرز ما يلاحظه الآباء، وعلى رأسهم الأمهات، في هذه السن هو تقلب المشاعر والانفعالات، فقد تراه ضاحكًا مليئًا بالحيوية في لحظة، ثم تجده سريع الغضب أو غارقًا في الحزن في اللحظة التالية.
هذه التغيرات ليست لغزًا، بل نتيجة طبيعية للاضطرابات الهرمونية والتطورات العصبية التي يشهدها جهازه العصبي المركزي.
وفي هذه اللحظة الحرجة، يبدأ المراهق في رفع صوته بحثًا عن استقلاله، محاولًا التحرر من سلطة الوالدين، وإثبات ذاته.
قد يظهر ذلك في صورة عناد متكرر، أو مخالفة متعمدة للقواعد الأسرية، أو المطالبة بمساحة أكبر من الحرية الشخصية. وهذا لا يعني أنه يرفض حب الأم أو وجودها، بل يعني أنه يختبر قدرته على الاستقلال والاعتماد على نفسه.
الأصدقاء.. البوصلة الخفية في حياة المراهق
ومن السمات الأكثر وضوحًا في هذه المرحلة ميل المراهق الشديد إلى الانتماء للجماعة. هنا، يصبح للأصدقاء دور محوري، قد يفوق أحيانًا تأثير الأسرة، فالمراهق يجد في رفقائه مرآة لذاته، وصوتًا يردد أفكاره وأحلامه، وقدوة يسير خلفها سواء في الاتجاه الصحيح أو الخاطئ.
فإذا كانت جماعته إيجابية، تجده أكثر التزامًا ومشاركة وتعاونًا، أما إذا كانت البيئة مشوهة، فقد يقوده ذلك إلى سلوكيات خطرة أو عدوانية، وهنا يظهر الدور الكبير للأم في مراقبة محيط ابنها بلطف، والتقرب من أصدقائه، لتكون على دراية بمن يوجه دفة حياته.
بين الفكر الناقد والاندفاع غير المحسوب
التفكير المعرفي عند المراهق يمر بتحول عميق؛ إذ يبدأ في استخدام التفكير المجرد، والقدرة على النقد والتحليل، واستشراف الاحتمالات، لكن هذا التطور العقلي لا يوازيه بالضرورة نضج انفعالي، ما يجعله عرضة للقرارات المتسرعة أو خوض التجارب غير المحسوبة.
قد يجرب التدخين لأول مرة، أو يقود باندفاع، أو يتحدى القواعد الاجتماعية، فقط لأنه يريد أن يختبر حدوده، ويشعر أنه أصبح سيد قراراته، هذه المواقف كثيرًا ما ترهق الأمهات، لكن إدراك خلفياتها يساعد على التعامل معها بروية، بدلًا من الاكتفاء بالغضب أو العقاب.
الوجه المشرق للمراهقة.. فرصة لبناء الشخصية
ورغم التحديات، لا تخلو هذه المرحلة من مظاهر إيجابية مهمة. بل على العكس، هي الفترة الذهبية التي يبدأ فيها المراهق بتكوين هوية شخصية واضحة، وصياغة قيمه ومعتقداته الخاصة.
إنها لحظة ميلاد جديدة للإنسان، حيث تنمو مهارات القيادة والعمل الجماعي، ويظهر الاستعداد للتعاطف مع قضايا الآخرين، والانفتاح على هموم المجتمع.
إنها الفترة المثالية لترسيخ القيم الإيجابية، وتعزيز روح المسؤولية الفردية، وتنمية مهارات التفكير الناقد. ومع الاحتواء والدعم الأسري، يمكن تحويل اندفاع المراهق إلى طاقة بناء، بدلًا من أن تتحول إلى اندفاع هدام.
العوامل المؤثرة في سلوك المراهق
ولا يمكن أن نفهم المراهق دون النظر إلى العوامل المؤثرة في سلوكه. فالتغيرات البيولوجية هي الأساس الذي يضع ملامح الاندفاع الانفعالي، بينما تلعب العوامل النفسية دورًا رئيسيًا في مسار البحث عن الهوية وإثبات الذات.
أما الأسرة فهي الحاضن الأهم، التي تشكل اتجاهاته وقيمه من خلال أنماط التنشئة والدعم العاطفي.
والمجتمع والأقران يضعون لمساتهم اليومية على سلوكه، سواء في المدرسة أو الشارع أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكل هذه المؤثرات تتشابك لتصنع شخصية المراهق وتحدد بوصلته.
الأم والمراهق.. معركة أم شراكة؟
عزيزتي الأم، اعلمي أن المراهق ليس متمردًا بطبيعته، بل هو في رحلة بحث عن ذاته. هو ليس خصمك في معركة، بل شريكك في رحلة، يحتاج إلى قلبك المفتوح قبل أي شيء، كما أن دورك ليس فقط في مراقبته أو تقويمه، بل في أن تمنحيه بيئة آمنة، تشعره بالثقة، وتمنحه مساحة ليخطئ ويتعلم.
التوازن هو الكلمة السرية، التوازن بين الحرية والإشراف، بين الحزم والاحتواء، بين التوجيه والإنصات.
إن المراهق يحتاج إلى أم تسمع صوته الداخلي، وتتفهم قلقه، وتمنحه الأمان في عالم يموج بالتغيرات.
عزيزتي الأم، عندما يعلو صوت ابنك، أو يغلق باب غرفته خلفه بعنف، أو يرد عليك بحدة لم تعهديها، لا تتعجلي في الحكم عليه، تذكري أنه لا يبتعد عنك، بل يقترب من نفسه، هو لا يرفضك، بل يختبر ذاته، فكوني له الحضن الدافئ الذي يعود إليه حين تخذله الدنيا، والمرآة الصافية التي يرى فيها صورته الأجمل.
المراهقة ليست أزمة قدرية، بل فرصة عظيمة، فإذا أحسنتِ احتواءها، صنعتِ رجلًا أو امرأة قادرة على مواجهة الحياة بثقة ووعي.
وإذا قسوتِ أو تهاونتِ، ربما ضاع منه الطريق، فكوني اليد التي تمسك به في عثراته، والقلب الذي يفتح له أبوابه بلا شروط، والعقل الذي يرشد خطواته بحكمة وصبر، وأعلمي أن المراهقة جسر، وأنتِ القبطان الذي يعبر بأمان.
دليل الأم الذكية للتعامل مع المراهقين
- الإنصات أولًا: استمعي لابنك دون مقاطعة، فالمراهق يريد أن يشعر أن صوته مسموع حتى لو اختلفتِ معه.
- ضبط الحدود بوضوح: ضعي قواعد أسرية عادلة وثابتة، مع شرح الأسباب، حتى يفهم أن الحزم لا يعني القسوة.
- التقرب من أصدقائه: اعرفي رفاقه واهتمي بهم، فهذا يمنحك فرصة لفهم البيئة التي تؤثر فيه.
- منحه مساحة من الحرية: الحرية المدروسة تبني الثقة، بينما السيطرة المطلقة تولد العناد.
- دعم المواهب والاهتمامات: شجعيه على ممارسة الرياضة، أو تعلم مهارة، أو الانخراط في نشاط إيجابي.
- تجنب الانتقاد الجارح: وجهيه بأسلوب بنّاء، ولا تهاجمي شخصيته، بل ناقشي سلوكه.
- تقديم القدوة الحسنة: فالمراهق يتعلم من أفعال والديه أكثر مما يتعلم من كلماتهم.
- التعبير عن الحب بوضوح: اجعليه يشعر أنك تحبينه دائمًا، حتى في لحظات الغضب أو الخلاف.
د. سمر أبو الخير
استشاري أمراض التخاطب
رئيس مجلس أمناء مؤسسة سفير لذوي الهمم